المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 12رمضان 1442هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نستكمل اليوم ما تحدثنا عنه بالأمس في سياق الحديث عن خطورة الشرك بالله “سبحانه وتعالى” في شقيه: الاعتقادي والعملي، وفي سياق الحديث عن الأهمية الكبيرة لمبدأ التوحيد لله “سبحانه وتعالى”.

قدَّمنا على ضوء الآيات المباركة توضيحاً ملخَّصاً عن الشرك في شقه الاعتقادي: أنه عندما تعتقد مع الله “سبحانه وتعالى” إلهاً آخر، وعن الشرك في شقه العملي: أنه عندما تقدِّم ما هو لله “سبحانه وتعالى”، فتتوجه به إلى غير الله “جلَّ شأنه”، وذلك فيما يتعلق بالعبادة في مجالها الواسع، على المستوى التشريعي، قدَّمنا المثال في أن تلتزم بتحريم ما حرَّمه أحدٌ مما أحلَّه الله، عندما يحرِّم أحدٌ شيئاً أحلَّه الله “سبحانه وتعالى”، فتعتبره حراماً؛ لأن فلان حرَّمه، أو لأن جهة معينة حرَّمته، أو تستحل ما حرَّم الله “سبحانه وتعالى”، وهذا أيضاً قدحٌ في حق  التشريع لله “سبحانه وتعالى”.

كذلك عندما تؤثر طاعة غير الله “سبحانه وتعالى” على طاعة الله، فتعصي الله من أجل طاعة ذلك الغير، هذه حالة خطيرة جداً، والشرك العملي خطيرٌ جداً، ولو أنه في جوانب منه لا يصل بالإنسان إلى مستوى الخروج من الملة، وهنا خطورته: أنه يمكنك أن تكون مقراً بمبدأ التوحيد لله “سبحانه وتعالى”، ومنتمياً على مستوى الانتماء الديني إلى الإسلام، فملتك هي الإسلام، ولكنك انفصلت عن مبدأ التوحيد لله “سبحانه وتعالى” في جوانبه العملية، في ثمرته العملية.

الثمرة العملية لمبدأ التوحيد، وهو مبدأ عظيمٌ، عندما نؤمن ونقر ونشهد أن لا إله إلا الله؛ وبالتالي ألَّا يصرفنا عن الطاعة لله، عن العبادة لله “سبحانه وتعالى” في مفهومها الشامل والواسع والعام، ألَّا يفصلنا عن ذلك خوفٌ من أحد، إذا خفنا من أحد إلى درجة أن نعصي الله من أجله، أن نفرِّط فيما أمرنا الله به “سبحانه وتعالى” من أجل ذلك الغير خوفاً منه، هذا هو من الشرك العملي، وهذا هو نقصٌ كبير في إيماننا بمبدأ التوحيد، في استيعابنا لهذا المبدأ العظيم، وما يبنى عليه، وما هي ثمرته، وما ينبغي أن يكون أثره حتى في أنفسنا.

عندما يأمرنا الله “سبحانه وتعالى” بأمر، يوجِّهنا بتوجيه، أو ينهانا عن شيءٍ معين، فنخالف ذلك، بسبب رغبتنا إلى أحدٍ هناك- إلى غير الله “سبحانه وتعالى”- فيما عنده، أو محبةً له… أو بأي دافع، فهذه أيضاً قضية خطيرة علينا، تناقضٌ في إيماننا والتزامنا العملي بمبدأ التوحيد، وهكذا على مستوى التشريع، على مستوى الطاعة في معصية الله تجاه ما أمر، أو تجاه ما نهى، كِلا المسألتين خطيرٌ جداً علينا.

ثم كذلك في حالة الرياء، وهي عندما ترائي بعملٍ من أعمال الطاعة لله، من الأعمال التي هي قربة إلى الله “سبحانه وتعالى”، مثل: الجهاد في سبيل الله، أو مثل: الصلاة، أو الصدقة، أو الإحسان… أو أي عملٍ من الأعمال التي هي أعمال صالحة، ويعملها الإنسان تحت عنوان القربة إلى الله، والطاعة لله، والعبادة لله، فعندما ترائي في ذلك، يعني: تبتغي به السمعة لدى الناس، أو المكانة عند أحد، أو الثناء والشكر من الآخرين، أو تبتغي به مطمعاً مادياً، أو مقاماً معنوياً لدى الناس ومن الناس، أو لدى أي أحدٍ منهم، فهذه الحالة خطيرة جداً، هي حالة الرياء، وهي من أشكال الشرك العملي، والشرك العملي- كما قلنا- هو أكبر الذنوب، الشرك بشكلٍ عام هو أكبر الذنوب، وهو في قائمة المحرمات رقم واحد، أول محرَّم من المحرمات: الشرك بكل أشكاله، فمسألة الشرك مسألة خطيرة، وأهمية مبدأ التوحيد، والضرورة القصوى لترسيخه حتى نحصل على ثمرته، وتتحقق إيجابياته في واقع حياتنا، وفي أعمالنا والتزاماتنا العملية، من أهم الأمور، ونأخذ العبرة في ذلك من خطاب الله “سبحانه وتعالى” لنبيه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وهو من هو في إيمانه وكمال يقينه، فيقول له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}[محمد: من الآية19]، وهو من يعلم ذلك، هو من يؤمن بذلك، هو الأكمل في إيمانه بذلك من كل إنسان، مع ذلك يوجِّه إليه هذا الخطاب: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، هذا يفيدنا أننا بحاجةٍ مستمرة وبدون انقطاع في كل مسيرة حياتنا، وليس فقط إلى مرحلة معينة، أو مرتبة إيمانية معينة، بل في كل مسيرة حياتنا، إلى ترسيخ هذا المبدأ العظيم.

ونجد كم ورد في القرآن الكريم من آياتٍ ترسِّخ هذا المبدأ، تنص على: أنه لا إله إلا الله، على: إلهكم إلهٌ واحد… وهكذا آيات كثيرة، ثم تربط ما بين ذلك وما بين الثمرة المترتبة على ذلك، والنتيجة الأساسية لذلك، من مثل قوله تعالى”: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل: من الآية2]، {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[النحل: من الآية51]، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: من الآية25]، {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ  َاسْتَغْفِرُوهُ}[فصلت: من الآية6]، وهذا ما غاب كثيراً في واقع أمتنا الإسلامية: الربط ما بين هذا المبدأ العظيم، وما بين ثمرته، وما بين نتيجته.

تتلخص المشكلة لدى الكثير من أبناء أمتنا، فيما هم معرضون عنه من كتاب الله على المستوى العملي، على مستوى الالتزام به في واقع العمل، ولا سيما ما يتصل بالمسؤوليات الكبرى، من مثل: إقامة القسط، من مثل: التعاون على البر والتقوى، من مثل: الاعتصام بحبل الله جميعاً، والألفة، والأخوة الإيمانية، وتوحد الكلمة على الحق، من مثل أيضاً: الجهاد في سبيل الله بمفهومه القرآني التحرري العظيم المقدس… وهكذا المسؤوليات ذات الأهمية الكبيرة جداً في واقع حياتنا، يتلخص العامل الرئيسي في ذلك: هو بالمخاوف، حالة الخوف من الآخرين، والبعض أيضاً بحالة الأطماع والرغبات فيما لدى الآخرين، وهذا نقص واضح في ثمرة الإيمان بمبدأ التوحيد، وإلَّا فنحن عندما نؤمن بالله “سبحانه وتعالى” أنه لا إله إلا هو، ويرتبط بهذا المبدأ كمال الله “سبحانه وتعالى”، وركَّز القرآن على هذا كثيراً، يتحدث عن أنه الإله، ثم يأتي ويذكر لنا من أسمائه الحسنى ما يبين لنا كماله؛ لأنه الذي يجب أن نأله إليه وحده، أن نرجوه وحده فوق كل شيء، أن نخاف من عقابه فوق كل شيء، أن نؤمن بأنه المسيطر على هذا العالم بكله، أنه ملك السماوات والأرض، أنه الرحمن الرحيم، فنثق به في أنَّ ما يأمرنا به من منطلق رحمته، ونتوكل عليه، ونتيقن أنه سيرحمنا وسيعيننا، ولن يتركنا من ألطافه، ورحمته، وفضله، وهكذا أنه العزيز الحكيم، أنه القوي العزيز… أسماؤه الحسنى في كثيرٍ منها تأتي بعد الحديث عن ألوهيته وأنه لا إله إلا هو.

نجد هذا مثلاً في آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[البقرة: من الآية255]، ثم ما تلى ذلك من الحديث عن عظمته “سبحانه وتعالى”، وكماله، وأسمائه الحسنى. نجد هذا في آخر سورة الحشر، وما ورد تبعاً له من أسماء الله الحسنى، والحديث بشكلٍ مركَّز على توحيده، وهكذا نجده في كثيرٍ من الآيات القرآنية، أخذ مساحةً كبيرةً، وحيزاً واسعاً في الحديث داخل الآيات القرآنية، وهذا مهمٌ لنا جداً، من أهم ما يمكن أن نعالج به في واقع أمتنا الإسلامية وفي واقع أنفسنا أزمة الثقة بالله “سبحانه وتعالى”: هو الترسيخ لهذا المبدأ بوعي ومن خلال ما ورد في القرآن الكريم.

خلال شهر رمضان المبارك والإنسان يتلو القرآن، من المهم أن يركِّز على هذا الموضوع؛ لأنه- كما قلنا- من المهم أن يركِّز عليه الإنسان في كل مسيرة حياته.

نجد فيما مرَّ بنا من الآيات المباركة: خطورة الشرك في المقام العملي من خلال الاتِّباع الأعمى، والطاعة في معصية الله “سبحانه وتعالى”، والطاعة في المخالفة لمنهج الله “جلَّ شأنه”، من مثل ما ورد في قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}[البقرة: من الآية165]، فنلاحظ أنَّ علاقة العبد مع العباد، علاقتك مع الناس، يجب أن يكون لها سقف محدد، سقف معين، لا تصل إلى هذا المستوى: إلى مستوى أن تحب أحداً كما ينبغي أن تحب الله، وأن تطيعه في معصية الله، وأن تمنحه ما لا ينبغي أن تقدِّمه إلَّا لله “سبحانه وتعالى”، تبقى علاقتك مع الناس في كل أصنافهم وفئاتهم ومستوياتهم، تبقى هذه العلاقة تحت سقف علاقة العبد مع العبد، في إطار طاعة الله “سبحانه وتعالى”، في إطار السير على هدي الله “سبحانه وتعالى”، لا أن تصل وأن تتجاوز هذا الحد وهذا السقف، هذه حالة خطيرة جداً، وعليه وعلى هذا الحال الكثير من الناس الذين انحرفوا عن منهج الله “سبحانه وتعالى”، وانحرفت بهم مثل هذه الارتباطات: ارتباطات بغير الله “سبحانه وتعالى”، ارتباطات مع أحدٍ من الناس بأي صفة، ثم تصل إلى مستوى الطاعة في المعصية، أو المخالفة لمنهج الله “سبحانه وتعالى” بناءً على ذلك، أو الخلل فيما يتعلق أيضاً بمسألة التشريع والارتباط التشريعي بهم بعيداً عن شرع الله ومنهج الله “سبحانه وتعالى”، ولأن المسألة هنا مسألة اتِّباع، وليست في سياق الحديث عن أنهم اعتقدوهم آلهة، بمعنى: أنَّ هذا هو في إطار الشرك العملي، الشرك العملي الذي هو ذنب خطير جداً، وإن كان في حالاتٍ منه لا يُخرِج من الملة، لكن هنا خطورته: أنك تعتبر نفسك مسلماً، وتنتمي للإسلام، وتقرُّ بمبدأ التوحيد، ولكنك في واقعك تعاني من هذا الخلل الخطير، الذي يمثِّل ضربةً قاضية لاتجاهك العملي، لاستقامتك العملية، لسيرك وفق هدي الله “سبحانه وتعالى”، ولأن السياق سياق عملي، قال في نفس الآية المباركة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}[البقرة: 165-166]، ولذلك من المهم لكل مسلم، لكل إنسان، أن يلحظ طريقة اتِّباعه، مسألة اتِّباعه، من يتَّبع؟ وعلى ماذا يتَّبع؟ وعلى أي أساسٍ يتَّبع؟ والحدود في علاقة الاتِّباع كيف تكون؟ وأنه يجب عليك أن تتبع ما أنزل الله، وأن تتبع سبيل من أناب إلى الله، وأن تكون مسألة الاتِّباع منضبطة بهذا الضابط الإيماني: وفق هدي الله، وفق منهج الله “سبحانه وتعالى”، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}[البقرة: الآية166].

يقول القرآن الكريم أيضاً وهو يتحدث عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}[التوبة: من الآية31]، وطبعاً بالنسبة لأهل الكتاب حصل عندهم شرك في شقيه: يعني: في الشق الاعتقادي: عندما اعتقدوا المسيح عيسى بن مريم اعتقدوه إلهاً ورباً، وأشركوا به مع الله “سبحانه وتعالى”، هذا شرك عقائدي، ولكن أيضاً على المستوى العملي في الجانب التشريعي، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}، يعني: علماءهم، {وَرُهْبَانَهُمْ}، يعني: عبَّادهم، {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، وورد الحديث عن النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” يوضح هذه المسألة كيف هي، وكيف تمت، وكيف كانت، فإذا هي من خلال هذا الارتباط التشريعي: أن يحرِّموا عليهم ما أحلَّ الله فيحرِّموه، وأن يحلوا لهم ما حرَّم الله فيستحلوه، فكانت قضيةً خطيرةً جداً.

في عصرنا هذا في واقع حياتنا- وللأسف الشديد- لا تراعى هذا المسألة في مسألة القوانين والدساتير، تأتي في عملية التقنين، وتحت العنوان التشريعي نفسه، وهي يعني خطيئة كبيرة جداً؛ لأننا لم نكن بحاجة إلى أن نقدِّم صفة تشريعية لأي جهة معينة في واقع أمتنا الإسلامية، لا نحتاج إلى أن نقول: [سلطة تشريعية]، فنمحنها هذه الصفة؛ لأن الحق في التشريع عندنا كمسلمين، كأمةٍ مؤمنة تؤمن بكتاب الله، تؤمن بالله بأنه الإله الحق، الحق التشريعي هو خاصٌ بالله “سبحانه وتعالى”، هو حق الرب، هو حقٌّ إلهيٌ يختص به الله “سبحانه وتعالى”، ولا يجوز أن نقرَّ به لأحد، وأن نقول لأحد: [لك الحق في أن تشرِّع]، هذا الحق ليس لأحد أبداً إلَّا لله “سبحانه وتعالى”؛ لأنه حقٌ يتعلق بالربوبية والألوهية، حق الله الإله الملك الرب “سبحانه وتعالى”.

ولذلك عندما نأتي إلى واقعنا الحياتي أو السياسي، كان يمكن أن تكون لعملية صياغة قوانين معينة على ضوء هدى الله “سبحانه وتعالى”، وعلى ضوء شرع الله “سبحانه وتعالى”، أن يكون هناك تسميات وعناوين تختلف عن الطريقة الغربية، عما عليه الغرب، لا نحتاج إلى أن نقدم عناوين من مثل عناوينهم؛ لأن عناوينهم هي مبنيةٌ على انحرافهم الكلي والشامل عن منهج الله، وعن دين الله “سبحانه وتعالى”؛ لأنهم فصلوا حياتهم، ومسيرة حياتهم في كل شؤونها العملية، عن مسألة الالتزام بدين الله، وتعليمات الله، وشرع الله، وهدي الله؛ لأنهم في حالة كفر بما أنزل الله “سبحانه وتعالى”.

في واقعنا كمسلمين يفترض بنا أن نحرص على أن نبني مسيرة حياتنا على أساسٍ من هدي الله، من تعليماته، من شرعه، وعادةً ما يحصل الإقرار بذلك، مثلاً: يأتي عنوان أو بند في الدستور يعتبر الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات، لكن تأتي التسميات، ويأتي إشكاليات أخرى تبعد الناس عن المبدأ الأساسي نفسه، وتفتح المجال، وتفتح الثغرات لدخول خلل كبير من هنا ومن هنا ومن هنا، ولذلك يجب أن تضبط الأمة مسارها العملي على أساسٍ صحيح، وأن تسعى لسد كل الثغرات، وأن تتجه بجدية في أن تلتزم بمنهج الله “سبحانه وتعالى”، وبدون أي تحرج، هذا ليس تخلفاً، هذا ليس نقصاً، هذا ليس عيباً، هذا ليس مشكلةً.

التخلف، الحالة الجاهلية، النقص: هو في الانحراف عن منهج الله، عن تعليماته القيمة والعظيمة، تعليمات الله “سبحانه وتعالى” هي الحق، هي العدل، وهي أيضاً التي تنسجم مع فطرتنا الإنسانية، وهي التي تحقق لنا المصلحة الحقيقية في شؤون حياتنا.

ثم على مستوى الانتماء الديني، نجد أن المشكلة التي كانت مشكلة قديمة في واقع أهل الكتاب، وانحرفت بهم- إلى حدٍ كبير- عن منهج الله “سبحانه وتعالى”، وعن شرعه ونهجه، ودينه وتعليماته، أنهم كما قال عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}: علماء الدين لديهم، {أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}: العبَّاد المتدينين لديهم، {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، هذا يحصل في أمتنا الإسلامية، ليس فقط في الجو السياسي، وفي الاتجاه السياسي، على مستوى دور سلبي لعلماء السوء، وللعبَّاد المنحرفين؛ لأنه عادةً ما يكون هناك علماء سوء، ممن هم بصفة علماء دين، ولكنهم من المضلين، من المنحرفين، من ذوي الأهواء، من ذوي الاتجاهات المنحرفة، وعندما يرتبط الإنسان بهم ارتباطاً أعمى، ويكتفي منه بصفة عالم دين، يكفيه عنده هذه الصفة، أو هيئة كبار العلماء، مثلما يقولون في السعودية (هيئة كبار العلماء)، أو يكتفي الإنسان بصفته الدينية، بصفة ذلك الشخص الدينية، باعتباره من ذوي الشهرة بالعبادة، والسلوك الديني، والالتزام الديني، ثم يأتي لينحرف بك، ليصدك عن سبيل الله، ينحرف بك عن مواقف أساسية يأمر بها الله “سبحانه وتعالى” في كتابه الكريم، ونحن نلحظ في زمننا هذا دوراً سلبياً بارزاً لعلماء السوء، في الانحراف بالأمة عن الإتباع للقرآن الكريم، والتمسك بهدي الله “سبحانه وتعالى”، فنجد البعض منهم يروجون للتطبيع مع إسرائيل، للعلاقة مع إسرائيل، للولاء لأعداء الإسلام، يروجون للولاء لأمريكا، للتحالف مع أمريكا، للتعاون مع أمريكا، وهذا واضح، يقفون مع من يقف في هذا الاتجاه: اتجاه العمالة لأمريكا وإسرائيل، والتحالف المعلن مع أمريكا وإسرائيل بوضوح، يساندونهم، يدعمونهم بالفتاوى يقدمون لهم الفتاوى التي تساندهم، فيقفون جنباً إلى جنب معهم في نفس الاتجاه، في الدفع بالأمة إلى الولاء لأمريكا وإسرائيل، وهذا انحرافٌ خطيرٌ جداً عن منهج الإسلام، عن مبادئه العظيمة، عن قيمه العظيمة، وفي نفس الوقت تدجينٌ للأمة تحت هيمنة أعدائها وسيطرة أعدائها، وفي نفس الوقت مصادرة لحقوق الأمة، وظلم رهيب للأمة؛ لأنه يُمكِّنُ أعدائها منها، منهم أعداء حقيقيون واضحون، ولا لبس في عدائهم لهذه الأمة، ثم يتجهون لتمكين أولئك الأعداء من هذه الأمة، في كل مجالات حياتها، وشؤون حياتها.

البعض يتجهون أيضاً اتجاها للتجميد لهذه الأمة عن أن تتحرك، أو أن تقف أي موقف في التصدي لأعدائها، عن طريق التثبيط، التجميد، التخذيل، الصرف للأمة عن أن يكون هذا من ضمن اهتماماتها العملية، وهنا نقول إذا كان هذا خارج إطار مسؤوليات هذه الأمة الدينية، أي: لم يبق عليها مسؤولية أن تتحرك لدفع الخطر عنها، فما هي قيمة الجهاد في سبيل الله؟ هل هو إلا لدفع الخطر عن الأمة؟

الجهاد في سبيل الله ليس عنواناً للدفاع عن الله “سبحانه وتعالى”، بحيث يتصور الإنسان أن هناك خطراً يمكن أن يتوجه إلى الله، وأن الله طلب من عباده أن يدافعوا عنه، لا، الله “سبحانه وتعالى” هو القوي العزيز، هو القاهر فوق عباده، والمهيمن على السماوات والأرض، والمهيمن على عباده، حياتهم بيده، موتهم بيده، رزقهم بيده، وهو “سبحانه وتعالى” يمكن بفيروس صغير أن يسلطه عليهم فيقهرهم ويصل بهم إلى حالة الاستسلام التام والعجز التام، أو أن يسلب منهم حياتهم في رمشة عين، في لحظة، في ثانية، في أقل من ذلك، الكل تحت سلطانه وقهره وهيمنته.

الجهاد في سبيل الله هو وسيلةٌ للدفاع عن الأمة نفسها، لدفع الخطر عنها، للحفاظ على حريتها واستقلالها وكرامتها، للحفاظ على مبادئها، وقيمها، وأخلاقها، ومصالحها، وأوطانها، وممتلكاتها، فائدته وثمرته تعود إلى الناس في الدنيا والآخرة: عزة، وكرامة، وحرية، واستقلال.

عندما يعطَّل هذا الفرض العظيم في دوره المهم، والأمة بأمس الحاجة إليه؛ لكي تكون أمةً حرةً، عزيزةً، مستقلة، ويأتي من يساهم في تعطيل هذا الفرض العظيم؛ فيثبط، ويخذل، ويجمد، هذا المبدأ وهذا الفرض المهم، ثم يسعى أيضاً إلى صرف اهتمام الناس عنه كلياً، والتثبيط عن أي توجه يدفع بالناس إلى القيام بهذا الفرض العظيم، هذا هو من الأحبار، إن كان بصفة عالم دين، من الأحبار الذين يصدون عن سبيل الله، ممن إذا ارتبطت به، وأطعته في ذلك، فقد اتخذته رباً، أشركت به شركاً عملياً، وهكذا بقية الفرائض المهمة، والمسؤوليات المهمة، إذا أنت كفاك أن يكون الشخص بصفة عالم دين، وارتحت بما قدمه لك؛ لأنه توافق مع هوى نفسك، فاعتبرت ذلك مناسباً، واعتبرت أنه أعفاك من مسؤولية، كنت ترى فيها أنها مسؤولية شاقة، فارتحت لذلك، فأنت هنا تورطت في أن جعلت منه رباً، وألّهته في واقعك العملي، من خلال الشرك العملي، عندما يحرم ما أحل الله، ويحل ما حرم الله، عندما يقدم تشطيبات، ويقدم- في نفس الوقت- حالة تجميد للنصوص القرآنية، لأوامر الله، لتوجيهات الله “سبحانه وتعالى”، من أجل هوى النفس، فهي حالة خطيرة جداً.

وكم يأتي أيضاً من علماء السوء، في مسايرةٍ منهم لزعماء الجور، لسلاطين الجور، لملوك الطغيان والانحراف، ما يحل ما حرم الله، فهم يقدمون فتاوى وتسهيلات تواكب التوجهات التي عليها أولئك لانحرافهم، هذا حصل بشكلٍ واضح في حالة النظام السعودي، نرى مسايرة من بعض من يسمون أنفسهم بالعلماء، ليبرروا وليشرعنوا حتى أشياء من الأمور الواضحة جداً في تحريمها، فيشرعنون، ويبررون، ويقدمون الفتاوى الداعمة للانحراف، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية31]، في نفس السياق التشريعي يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام: من الآية121]، فيعتبرها حالة شرك {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ}؛ لأنكم إن اطعتموهم وهم يجادلونكم، ويسعون إلى تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، فطاعتكم لهم في ذلك تعتبر شركاً؛ لأنكم أعطيتموهم الحق في التشريع، وفي نفس الوقت لم تتعاملوا مع الله على أنه صاحب هذا الحق، يعني: المسألة ليست فقط أنك أعطيت ذلك الإنسان الحق في التشريع، بل وفي نفس الوقت لم تقبل بالتشريع الإلهي، فكأن ذلك الطرف هو الأحق من الله بالتشريع، وكأن فيما قدمه الحق، وفيما قدمه الله “سبحانه وتعالى” العكس من ذلك، فتعتبر هذه إساءة كبيرة إلى الله “سبحانه وتعالى”.

نخلص إلى أن الثمرة المهمة لمبدأ التوحيد، تدفع بنا إلى أن:

  • نخاف من الله فوق كل شيء.
  • وأن نتحرر من كل المخاوف التي تصدنا عن اتباع ما أنزل الله، وعن الطاعة لله، وعن الاستجابة العملية الكاملة لله.
  • في مسألة المحبة كذلك.
  • في مسألة ما نرجوه، ما نريده.

فنحن نؤمن بأن الله هو الإله الواحد الحق المبين، وأنه المهيمن على كل شيء، بيده ما نرجوه من الخير، وعقوبته أشد من أي عقاب، وأشد من أي عذاب، وأنه أرحم الراحمين، نؤمن بكماله المطلق، فننشد إليه “سبحانه وتعالى” بالعبادة، ونأله إليه بالرجاء والخوف والمحبة.

ثم نرتبط بذلك عملياً في إتباعنا لمنهجه، فنعبده، فنتقيه، فنلتزم بطاعته، فنستجيب له، فنتوكل عليه، فنلتجئ إليه، فنثق به ونعتمد عليه، هذا شيءٌ مهم.

فيما يتعلق بالرياء والإخلاص، يبقى لنا هذا العنوان في سياق حديثنا عن مبدأ التوحيد، وعن خطورة الشرك، نترك هذا العنوان للمحاضرة القادمة إن شاء الله؛ لأنه من المواضيع المهمة جداً جداً، لنخصص المحاضرة القادمة له إن شاء الله.

نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛