المحاضرة الرمضانية التاسعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 19رمضان 1442هـ

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

تحدَّثنا على ضوء قول الله “سبحانه وتعالى” في الآية المباركة: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}[الأنعام: من الآية151]، عن رزق الله الواسع، ونعمه العظيمة التي أسبغها على عباده ظاهرةً وباطنةً، وأنَّه “سبحانه وتعالى” مع ما خلق من أرزاقٍ، وما وهبه من نعم، وما سخَّره للبشر، أيضاً قدَّم مع ذلك الهداية والتعليمات والتشريعات، التي على ضوئها يتمكَّن الإنسان من حسن استثمار هذه النعم، ومن حسن التصرف فيها، ومن حسن الاستخدام لها، بطريقةٍ صحيحة، تنسجم مع التكامل الإنساني، وتصلح بها، وتستقيم بها، وتستقر بها حياة الإنسان.

فالإنسان هو يتجه بشكلٍ غريزي للاهتمام بهذه النعم بدافع الحصول على متطلبات حياته، وتوفير احتياجاته الأساسية، فإذا لم يترافق مع ذلك: الأخذ بعين الاعتبار هذه التعليمات من الله “سبحانه وتعالى”، وهذه الهداية الإلهية؛ فإنه سيتصرف بشكلٍ عشوائي، وبشكلٍ مضر، وبشكلٍ يؤثِّر سلباً على تكامله الأخلاقي والإنساني والقيمي، وبشكلٍ ينتج عنه الكثير من الضرر، والكثير من المظالم، والكثير من المفاسد، وهذا هو الذي يحصل في واقع البشر على مستوى دول، وكيانات، وحضارات، أعرضت عن هدى الله “سبحانه وتعالى”، وتجاهلت تعليماته، وعصت أوامر الله “سبحانه وتعالى”؛ وبالتالي نتج عن طريقتها في الأسلوب الحضاري، في الاتجاه إلى عمران هذه الحياة، في الإنتاج لمتطلبات هذه الحياة، في العمل فيما استخلف الله البشر فيه، اتجهت بطريقة خاطئة، وعملت بطريقة خاطئة، فنتج عن ذلك الكثير من المفاسد والأضرار على الإنسان، على حياته، على البيئة من حوله.

فالله “سبحانه وتعالى” أنعم علينا بالنعم المادية، وأنعم علينا وخلق لنا الأرزاق، وسخَّر لنا لنستفيد منها على نحوٍ واسعٍ، وبأشكالٍ متعددة، وكيفياتٍ متعددةٍ ومتنوعة، ولأغراض كثيرة في شؤون حياتنا، كلها تلبِّي حاجةً لهذا الإنسان، وتمثل منفعةً حقيقيةً له في حياته، ولكن إلى جانب هذه النعمة، قدَّم هذه الإرشادات والهداية والتعليمات، وهي نعمةٌ كبيرةٌ جداً، هي نعمةٌ بحد ذاتها، وهي في نفس الوقت ترتبط بالنعم المادية، على ضوئها يتمكَّن الإنسان من الاستثمار بشكلٍ صحيح لهذه النعم المادية.

نجد في واقعنا في الحياة، والإنسان في حركته الإنتاجية عندما ينتج سلعاً معينة، يصنِّع أشياء معينة مما مكَّنه الله فيه، وسخَّره له، عادةً ترفق المنتجات والمصنوعات بتعليمات معينة، كتالوج معين تتضمن ارشادات وتعليمات تتعلق بحسن الاستخدام، طريقة الاستخدام، الصيانة لذلك المنتج، هكذا هي نعم الله “سبحانه وتعالى”، وقد أرفقها لنا بالتعليمات المفيدة والمهمة جداً، منها ما يتجه إلى كيف ننطلق في تعاملنا مع هذه النعم، بدءاً من المنطلقات، وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن الإنسان قد يتجه بدافع الطمع، بدافع البطر، بدافع الشهوات فقط، يريد أن يصل إلى منتهى وأقصى ما يشتهيه، وبطريقة فوضوية وغير منضبطة، وليس لها حد معين عند قيم، ولا أخلاق، ولا ضوابط معينة، وهذا يترك أثراً كبيراً وضرراً كبيراً في شتى مناحي الحياة: في الجانب الصحي، في الجانب الأمني في الجانب الاقتصادي نفسه… في جوانب كثيرة تؤثِّر على الإنسان، إضافةً إلى الجانب الأخلاقي، والسمو الأخلاقي والروحي، فالقرآن الكريم يصحح لنا المنطلقات، كيف نتعامل مع هذه النعم، فنرى فيها ابتداءً أنها نعم من الله “سبحانه وتعالى”، تفضَّل بها علينا، وأنعم بها علينا، فلا ننسى المنعم.

البعض من الناس تتجه كل اهتماماتهم نحو هذه النعم، ولكنهم ينسوا الله “سبحانه وتعالى” المنعم الكريم العظيم، الذي وصلتنا منه هذه النعم، خلقنا، وخَلَق لنا هذه النعم، هذا يشد الإنسان إلى الله “سبحانه وتعالى” بالشكر، بالمحبة لله، بالاستشعار لفضل الله، عندما ندرك هذه النعم، وقيمتها، وقدرها، وأهميتها لنا في حياتنا، فوائدها ومنافعها لنا في حياتنا، وعندما نتحرك وفق مبدأ التسخير، الله سخَّر لنا ما في السماوات وما في الأرض، ما في السماء والأرض، والتسخير فيه تهيئة لتلك المخلوقات، لتلك النعم، أن نستفيد منها بأشكال متنوعة، أن نبتكر فيها عبر وسائل وأساليب وننتج منها منتجات متنوعة، نستفيد منها في حياتنا على نحوٍ واسع.

عندما ننطلق من هذا المنطلق الإيماني، هذا يشدنا إلى الله، يزيدنا إيماناً، وكلما ابتكرنا أكثر، اكتشفنا أكثر ما سخَّره الله لنا في هذه النعم من المنافع المتنوعة والواسعة؛ كلما ازددنا إيماناً بالله “سبحانه وتعالى”، وتجلت لنا مظاهر قدرته، تجلت لنا آيات حكمته وإبداعه، تجلت لنا مظاهر عن رحمته “سبحانه وتعالى”، نرى رحمته الواسعة بنا، عن علمه بهذا الإنسان، بحياته، بمتطلباته، بما يناسبه، بما يحتاج إليه، بما يفيده، بما ينتفع به، والله “سبحانه وتعالى” هو واسعٌ، وفضله واسع، جعل فيما خلق لنا وأسبغ علينا من النعم منافع واسعة جداً جداً، وكيفيات للاستغلال والاستثمار والانتفاع بتلك النعم على نحوٍ واسعٍ جداً، وعُرِف هذا في هذا القرن بشكلٍ أكبر مع التطور العلمي والتكنولوجي، كيف أصبح وهناك وسائل كثيرة ينتفع بها الإنسان في حياته، اكتشف أشياء كثيرة ينتفع منها في حياته، وتقرِّب له المسافة في أشياء كثيرة، وتقوِّي له عملية الإنتاج في أشياء كثيرة، الإنسان استفاد على نحوٍ كبير من الوسائل، من الإنتاج نفسه في شكليات وكيفيات متنوعة وواسعة جداً، كل ما يصل إليه الإنسان، وما اكتشفه الإنسان، إنما هو وسائل خلقها الله، منافع سخَّرها الله “سبحانه وتعالى”، كلما عَرَف كيفية الاستفادة منها على نحوٍ أفضل، واكتشف ما فيها من المنافع؛ كلما استفاد في حياته أكثر، فعندما يكون المنطلق إيمانياً، فالإنسان سيزداد إيماناً من كل ما اكتشفه، من كل ما وصل إليه من كل ما لاحظه فيما سخَّره الله له من المنافع، يرى فيها دلائل واضحة على قدرة الله، على حكمته، على رحمته، على فضله، على علمه الواسع، يتجلى له كرم الله الواسع، وكيف أسبغ علينا نعمه على نحوٍ واسعٍ وعجيب.

هذا لا يحصل عندما لا ينطلق الإنسان من منطلقٍ إيماني، إنما ينطلق من منطلق غريزي، من منطلق الحاجة فقط، إذا غاب هذا المنطلق؛ تأتي تلك السلبيات الكثيرة التي تحدثنا عنها في المحاضرة الماضية، يتعامل الإنسان مع النعمة بطريقة تبعده عن الله، يستخدم نعم الله في معصية الله، يسيء إلى المنعم الكريم؛ وبالتالي يستخدمها عندما يستخدمها في معصية الله، هو يستخدمها فيما يضره هو، يضره هو على المستوى النفسي والروحي والأخلاقي، يضره هو على المستوى الصحي، يضره هو على كافة المستويات، يضره كمجتمع، ضرر كمجتمع في واقعه الأمني والاقتصادي والاجتماعي… في أشياء كثيرة، وتظهر الكثير من المفاسد في طريقة الاستخدام للنعم.

ولهذا يأتي أيضاً في القرآن الكريم الحث على استثمار هذه النعم بطريقة صحيحة، ومن منطلقٍ إيماني، فيقول الله “سبحانه وتعالى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة: الآية172]، فليس المطلوب من الذين آمنوا- تحت مفهوم الزهد- أن يتركوا كل ما في هذه الحياة، وألا يعملوا، وألا يتحركوا وألا… بل المطلوب أن يتحركوا من منطلقٍ إيماني، وهنا يأتي الزهد في إطار المنطلق الإيماني، ليس بالمفهوم السائد الذي معناه الإهمال، معناه ترك كل شيء، عدم الاهتمام بأي شيء.

{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، هذا حث، حثٌ من الله “سبحانه وتعالى” على استثمار هذه النعم، طيِّبات الرزق، {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}، لتكن دافعاً إلى الشكر لله “سبحانه وتعالى”، وحافزاً إلى الشكر، الشكر الذي يدخل إلى الواقع العملي في التصرف بهذه النعم، في كيفية استثمارها، والعمل فيها، فيما يرتبط بذلك من قيم، من أخلاق، من مسؤوليات، من تشريعات إلهية.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الأعراف: من الآية32]، فالذين آمنوا من المطلوب منهم أن يتحركوا لاستثمار هذه النعم؛ لأن عليهم في هذه الحياة مسؤوليات واسعة، جزءٌ منها يرتبط بالجانب المالي، وجزءٌ منها كذلك يتعلق بشؤون حياتهم ومتطلبات حياتهم، فالدين ليس حرماناً، الإيمان ليس حرماناً من الطيِّبات، حتى ينظر إليه الإنسان بأنه يمثِّل مشكلةً عليه في حياته، وعبءً عليه في حياته، لا، هو ينظِّم للإنسان عملية الاستثمار للنعم على نحوٍ صحيح، سليمٍ من المفاسد والأضرار، ويربطه بالله “سبحانه وتعالى”.

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}، الذين آمنوا عليهم أن يكونوا هم الروَّاد في المجتمع البشري، في التفاعل مع نعم الله “سبحانه وتعالى” من واقع إيمانهم، من واقع علاقتهم بالله “سبحانه وتعالى”، ثم يتحركوا لدورهم في الاستخلاف في الأرض على أساس توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، فيعملوا على بناء حضارةٍ إيمانية؛ لأن الإنسان هو مستخلف في هذه الارض، والمطلوب منه أن يؤدِّي دوره في الاستخلاف على نحوٍ صحيح، هو سيؤدِّي دوره في الاستخلاف على كل حال، ولو بدافع الحاجة والغريزة، ولكن دافع الحاجة والغريزة ينتج عنه ويأتي معه الكثير من السلبيات والإشكاليات، تحدَّثنا عن بعضها في المحاضرة الماضية.

أمَّا إذا أدَّى دوره في الاستخلاف في الأرض على نحوٍ صحيح، وفق توجيهات الله، وتعليمات الله، وانطلق للتعامل مع النعم مستشعراً أنها نعم من الله “سبحانه وتعالى”، فهذا له آثاره المهمة والمفيدة والنافعة.

يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً وهو يؤكِّد على أهمية الشكر، والشكر مسألة مهمة جداً، وعنوان رئيسي بالنسبة للإنسان، يقول الله “جلَّ شأنه” مخاطباً لآل داوود: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}[سبأ: من الآية13]، بعدما أنعم عليهم بتلك النعم العجيبة، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ: من الآية13]؛ لأنه يدخل الشكر في أدائك العملي، في تعاملك مع النعم نفسها، يدخل الشكر هنا: في الانشداد إلى الله “سبحانه وتعالى”.

يقول “جلَّ شأنه” عن نبيه سليمان “عليه السلام” وقد مكَّنه تمكيناً واسعاً وعجيباً، فكان نموذجاً للشاكرين، لكيفية التعامل مع نعم الله، مع التمكين في الأرض، لم يبطر، مع أنَّ الله مكَّنه تمكيناً عجيباً، وأعطاه ملكاً عجيباً، ووسائل، وإمكانيات، وعلوم لتسخير مظاهر هذه الحياة على نحوٍ عجيبٍ جداً، ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، مع ذلك لم يبطر بالنعمة، لم يتكبر، لم يظلم، لم يفسد، إنما تعامل مع النعمة من منطلق ماذا؟ عندما وصل إلى ذروة التمكين، وكان من مظاهر ذروة التمكين هذه في الواقع البشري: قصة نقل عرش بلقيس من مأرب إليه في طرفة عين، في وقتٍ وجيزٍ جداً، أمر مدهش للغاية، وتمكين عجيب، وتسخير عجيب جداً، فماذا قال؟ {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل: من الآية40]، لاحظوا هذا المستوى العالي جداً من الوعي والإيمان، فهو لم تُسْكِره تلك النعمة، وذلك التمكين العجيب، لم يبطر بسبب ذلك، لا، هو عرف أنَّ المسألة اختبار، هو يحمل هذه الرؤية، هذا المنطلق: أننا مختبرون بهذه النعم، أنَّ الله يختبرنا بما أنعم علينا في كيفية تعاملنا مع هذه النعم، هل سنشكر أم سنكفر النعمة، كفران النعمة يدخل فيه سوء الاستخدام لهذه النعمة، من خلال معصية الله “سبحانه وتعالى”، ويترتب عن ذلك مضار ومفاسد للعباد أنفسهم في حياتهم، وهذه نقطة مهمة؛ لأن الله لا يتضرر هو بالمعصية، المعصية ضرها على البشر، ضرها على حياتهم، على أمنهم، على استقرارهم، على معيشتهم، على واقعهم الاجتماعي والأمني، ولذلك الله “سبحانه وتعالى” هو يحمينا بتوجيهاته من المضار والمفاسد الناتجة عن سوء الاستخدام للنعم، هذه هي الخلاصة المهمة جداً.

الله “سبحانه وتعالى” يقول “جلَّ شأنه” عن أنبيائه، مثلاً عن نبيه نوح “عليه السلام”: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[الإسراء: من الآية3]، الشكر عنوان رئيسي ومهم جداً في الدين الإلهي، وأول القدوة والأسوة هم الأنبياء والرسل في الشكر للنعمة، حتى يصبح هنا عنواناً بارزاً من مواصفات الرئيسية، من مواصفاته البارزة هذا النبي العظيم نبي الله نوح “عليه السلام”: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، يشكر نعم الله المادية والمعنوية.

قال عن نبيه إبراهيم “عليه السلام”: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}[النحل: من الآية121]، ونبي الله إبراهيم “عليه السلام” كذلك تصبح هذه من المواصفات البارزة: الشكر، أنه شاكراً لأنعم الله، النعم المعنوية أولاً، والنعم المادية، نعم الله بشكلٍ عام، ينظر إلى النعم، كل هؤلاء نظروا إلى النعم إلى أنها ذات قيمة، ذات أهمية، وأنَّ الله “سبحانه وتعالى” أسبغ بها فضله علينا، فيتجهون بالشكر لله “سبحانه وتعالى”، هذا من حيث المنطلقات الإيمانية، وما يتعلق بمسألة الشكر.

أمَّا فيما يتعلق أيضاً بالموجِّهات وما يتعلق بالقيم الأساسية التي نتعامل معها أو من خلالها مع نعم الله “سبحانه وتعالى”، أتى الكثير في القرآن الكريم فيما يتعلق بهذا الشأن، أول عنوان يحضرنا هو الحكمة، الله “سبحانه وتعالى” يريد لنا أن نكون حكماء، أن نتصرف بحكمة في كل شؤون حياتنا، أن نتصرف مع نعمه ومع ما مكننا فيه بحكمة، بحسن تصرف، بدون عبث، بدون فوضى، بدون تصرفٍ لا مسؤول، ولا أخلاقي، ولهذا يقول الله “سبحانه وتعالى” في سياق الآيات القرآنية التي تحدَّثت عن المال والإنفاق، وما يتصل بذلك، في نفس السياق، بين وسط تلك الآيات يقول “سبحانه وتعالى”: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[البقرة: الآية269].

الإنسان بحاجة إلى الحكمة في التصرف مع نعم الله “سبحانه وتعالى”، على المستوى الشخصي: فيما مكَّنك الله فيه، وفيما أعطاك، وفيما يرزقك، على المستوى العام: المجتمع، الدولة، الموارد العامة، وكيفية التصرف فيها بحكمة.

العرب فقدوا الحكمة إلى حد مدهش، ومذهل جداً، ومؤسف للغاية، فقدوا الحكمة في التصرف المالي، الموارد لديهم هي من أضخم الموارد في الدنيا، ثروات ضخمة جداً في بلدانهم، ثروات هائلة جداً، من مختلف الثروات: المعادن في الأرض، النفط، الخيرات الواسعة، الأراضي الزراعية الواسعة، القابلة للزراعة، المتنوعة أيضاً في بيئتها، التي يمكن أن تنتج مختلف المحاصيل الزراعية، منحهم الله “سبحانه وتعالى” نعماً واسعةً جداً، موارد ضخمة، موارد وثروات بحرية أيضاً، وتجدهم في وضعية غريبة جداً، كأن الله لم يعطهم شيئاً أبداً، يعيشون حالة رهيبة جداً من الفقر والإملاق، أو وضع اقتصادي هش، مثلما هو الوضع الاقتصادي في دول الخليج، هو هش بكل ما تعنيه الكلمة؛ لأنهم جعلوا من بلدانهم فقط منطقة سوق للبضائع الأجنبية، يستوردون إليها البضائع الأجنبية، لم يتجهوا ليكونوا دولاً منتجة، غابت مسألة الإنتاج وحسن الاستخدام لهذه الموارد العامة، لهذه الثروات الضخمة، الثروات العامة الموجودة لديهم، ليس هناك إنتاج لها ولا حسن تصرف فيها، ولا هناك رشد حتى في مسألة الاستهلاك، هناك تبذير، هناك عبث، وليس هناك أولويات، وليس هناك سياسات مرسومة حكيمة في الوضع الاقتصادي، غابت الحكمة كرؤية عند العرب في وضعهم الاقتصادي، ولذلك عندهم مشكلة كبيرة، وأزمات غير طبيعية يعيشون منها، غابت الحكمة كرؤية اقتصادية سليمة، يبنى على ضوئها انتاج اقتصادي، استثمار لهذه النعم على نحوٍ صحيح، وعلى نحوٍ نافع، وعلى نحوٍ مفيد، والحكمة مهمة جداً من الواقع الفردي للشخص، لو ما معك إلَّا ألف ريال، أنت بحاجة إلى حكمة كيف تتصرف فيه، إلى هذا المستوى العام كدول وكيانات، يحتاج الناس إلى الحكمة.

يحتاجون إلى الرشد، وهو توأم الحكمة، الرشد توأم الحكمة، ويعود إلى حسن التصرف، التصرف الواعي، التصرف الناضج، التصرف الصحيح، والله “سبحانه وتعالى” يركِّز على موضوع الرشد في الجانب المالي إلى حدٍ عجيب، إلى حد أنه وردت في التعليمات القرآنية في سورة النساء في قوله “سبحانه وتعالى”: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا}[النساء: 5-6]، فنجد أولاً في حديثه عن السفهاء، والسفيه هو لا يمتلك الرشد، يعني: إنسان غير ناضج، على حسب التعبير المعاصر: غير ناضج عقلياً، يعني: مداركه، فهمه، إنسان طأائش، تافه، ليس عنده النضج العقلي الكافي، الإدراك الصحيح، حسن التصرف، ولذلك هو يمكن أن يخدع، يمكن أن يكون ساذجاً في تصرفاته، عابثاً في تصرفه بالمال، فالله يقول: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}، حتى في ممتلكاتهم الخاصة يجب أن يكون هناك عليهم إشراف وصرف بشكل رشيد، بحسن تصرف في ممتلكاتهم، لا تعطى لهم اليد في ممتلكاتهم؛ لأن هذا يؤثِّر على المجموع العام، المال العام، المسألة في القرآن نظرة عامة، يأتي على ضوئها تفصيل الواقع الشخصي.

{الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}؛ لأن بها قوام حياتكم، أنتم بحاجة إليها في مختلف شؤون حياتكم، لا مجال للعبث، والهدر، والسفه، والطيش، والتعامل التافه في المال والممتلكات، {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا}، يعني: أشرفوا عليهم، اصرفوا عليهم بشكل صحيح حسب متطلباتهم واحتياجاتهم الحقيقية، {وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}.

ثم ينتقل إلى الحديث عن اليتامى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}، اختبروهم، وأهِّلوهم، وساعدوهم على أن يكتسبوا الرشد في التصرف المالي بطريقة متدرجة، وبمراحل منظَّمة، وطريقة مناسبة، {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}، لاحظ، على مستوى المال الشخصي الإنسان بحاجة إلى الرشد، إلى أن يكون لديه رشد، وحسن تصرف، وفهم، ومعرفة صحيحة للتصرف، وتوازن نفسي يساعده على حسن هذا التصرف، إذا اختلت هذه الأشياء، وكان طائشاً، عابثاً، مستهتراً، وإذا اجتمع مع ذلك أيضاً مشكلة في النضج العقلي، في الإدراك، في الفهم، فهذا يؤثر على الإنسان، ويجعله عابثاً ويضيع ممتلكاته في أتفه الأشياء، أو يخدع، وببساطة وسذاجة يمكن أن يخسر كل شيء.

على المستوى العام الأمة بحاجة إلى الرشد كمجتمع، كدولة، ككيانات كبرى، بحاجة إلى الرشد، الذين هم في مواقع مسؤولية، وفي أيديهم إمكانات، قد تكون إمكانات كثيرة، قليلة، بأي مستوى، بحاجة إلى الرشد، من هم في مسؤوليات مالية، من تحت أيديهم إمكانات، إذا فقدوا الرشد ينتج عن ذلك: سوء التصرف، الإهمال، العبث، التبذير، الضياع، وهذا من النكران للنعمة، هذا سوء تصرف في النعمة، إساءة إلى النعمة، عدم تقدير للنعمة، وما أكثر ما يحصل ذلك، خاصة في الواقع العربي للأسف الشديد، وهذه مسألة مهمة جداً، هذا معيار قرآني في من هم على مسؤوليات فيها أموال، فيها إمكانات، أن يمتلكوا الرشد، إذا كانوا عابثين، مستهترين، ولو أبسط إمكانية، ولو أي مستوى من الإمكانيات، يتعامل بطريقة عابثة، يضيع، ويهدر، ويحطم، وينتج عن ذلك أشياء سلبية جداً، فالرشد مسألة مهمة جداً، والتعامل بالرشد، يساعد على المستوى العام بشكل كبير حتى في السياسات العامة، هذه مسألة مهمة جداً.

أيضاً التعامل بمسؤولية وأمانة: في المال، بدءاً مما في يدك أنت، والمال تدخل فيه معاملة، الممتلكات تدخل فيها معاملة، الإنتاج والنعم يدخل فيها معاملة، بحاجة إلى أن تكون أميناً في تعاملك، في تصرفاتك، فيما تنتجه، في الكميات عندما تقدم على أساس كميات معينة، أن تكون أميناً في ذلك في مستوى الجودة، أن تكون أميناً في ذلك، وهكذا الأمانة مسألة مهمة جداً، فيما أنت مؤتمنٌ عليه من إمكانات لغيرك، أو عامة، هنا تحتاج إلى الأمانة، والله حذر من الخيانة: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال: 27-28]، فالأمانة مسألة مهمة جداً، الإنسان إذا تعامل بأمانة وهو يبيع، وهو يشتري، وهو مسؤول، وهو مؤتمن على شيءٍ عنده، يتعامل بأمانة، ينتج عن هذه القيمة المهمة جداً، أهمية كبيرة، وأثر إيجابي في الواقع الاقتصادي للناس، في المعاملة فيما بينهم، والمسؤولية كذلك، بمعنى: أن علينا أن ندرك أنه يرتبط بالمال وبالنعم، وبما أعطانا الله ومكننا فيه، مسؤوليات كثيرة، مسؤوليات كثيرة، منها مسؤوليات عملية، تتصل بأدائنا العملي في الحياة، أشياء كثيرة تحتاج إلى المال، نقدم فيها المال، والالتزامات المالية هي واسعة، الالتزامات المالية، الله “سبحانه وتعالى” يقول في القرآن الكريم وهو يتحدث عن الإنفاق: {وَآتَى الْمَالَ} في سياق الحديث عن البر {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}[البقرة : 177]، نجد هنا التزامات واسعة، يعطي الإنسان لها من المال.

يقول الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة: من الآية111]، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية41]، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة: من الآية195]، فالله لم يعطينا عبثاً، الله “سبحانه وتعالى” أنعم علينا، وقرن هذه النعم بمسؤوليات، يقترن بها مسؤوليات، ونجد في المسؤوليات المالية هذه القائمة: الإنفاق:

  • {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} في محيطك الأقرب، بدءاً من أسرتك، عندك اهتمامات بالإنفاق على أسرتك، عليك مسؤولية الإنفاق على أسرتك.
  • ثم كذلك المحتاجين، وصلة الأرحام في محيطك الأسري أيضاً، على مستوى أوسع.
  • ثم اليتامى.
  • المساكين.
  • ابن السبيل.
  • السائلين.
  • في الرقاب.

يكون عندك اهتمام بالإسهام المالي، اهتمام والتفات إلى هذه الفئات المحتاجة من أبناء المجتمع

  • إضافة إلى الزكاة، {وَآتَى الزَّكَاةَ}، {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}.
  • فيما يتعلق بالإنفاق في سبيل الله، في خدمة قضايا الأمة الكبرى: في الدفاع عن دينها، وقيمها، وأخلاقها، وممتلكاتها، وأوطانها، وأعراضها.

الله “سبحانه وتعالى” جعل الجهاد في سبيله عنواناً لذلك، وهو يتصل بالمال، {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، هناك كثير من الأعمال التي تحتاج إليها الأمة للجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”؛ لتذود عن عرضها، وأرضها، واستقلالها، وكرامتها، ومبادئها، وقيمها، وتدفع الخطر عن نفسها، كثير من الأمور تحتاج إلى مال، تحتاج إلى نفقات، تحتاج إلى تمويل، كثير من الأعمال، من الاهتمامات، من الأنشطة، من المواقف، من الاحتياجات لذلك، على المستوى القتالي كم هناك من احتياجات مالية تحتاج إليها الأمة في ذلك، {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فنجد هنا الجهاد بالمال، الجهاد بالمال، لتمويل الأعمال التي هي في إطار الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” وفق المفهوم القرآني.

يقول “جل شأنه”: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؛ لأن بخل الأمة عن الإنفاق في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وهذا يأتي إلى قضاياها الكبرى، إلى دفع المخاطر عنها، إلى دفع شر عدوها، إلى الحفاظ على أمنها، واستقرارها، واستقلالها، وكرامتها، والحفاظ على أوطانها، وشعوبها، وممتلكاتها، إذا لم تنفق من أجل ذلك، فمعنى ذلك: هو التمكين للعدو منها؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك تحرك فاعل لحماية الأمة والدفاع عنها، إلا وهناك تمويل مالي، بدون المال لا يمكن أن يكون هناك تحرك، لا عسكري، ولا غيره، فالمسألة تحتاج إلى تمويل، إذا لم يكن هناك تمويل، فالنتيجة هي الهلاك، البخل نتيجته الهلاك؛ لأن العدو سيتمكن، والعدو يهتم بالإنفاق في سبيل استهداف هذه الأمة، كم ينفق على مؤامرات، كم يعد من إمكانات، وتجهيزات، وخطط، وبرامج، وأنشطة، تستهدف هذه الأمة، وينفق عليها مليارات كثيرة، ينفق في الاستهداف العسكري لهذه الأمة مليارات الدولارات، ينفق في الاستهداف الإعلامي، في الاستهداف الاقتصادي، في كل المجالات، فالأمة لا بد أن تكون منفقة.

يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: من الآية24]، حتى الزكاة هي تأتي مرتبطةً بموضوع المال، وتساهم في معالجة مشكلة الفقر لدى الفقراء.

على مستوى آخر أيضاً وهو مهمٌ جداً جداً: أن هذه النعم الإلهية التي أنعم الله بها علينا، واستخلفنا فيها، إذا انطلقنا فيها من منطلقٍ إيماني، فإنها ستمثل عاملاً مهماً في النهضة والقوة:

عندما نلحظ أن من مسؤولياتنا أن نكون أمةً مستقلةً، لا تخضع للطاغوت، لأعدائها المضلين من الطواغيت المجرمين، المتسلطين، المستكبرين، وأن تبني مسيرة حياتها على أساس هدي الله وتعليماته “سبحانه وتعالى”، وهذا الذي يحقق لها الاستقلال الفعلي والحقيقي، معنى ذلك: أنها ستدخل في صراع مع أعدائها، ولا بدَّ لها بأن تسعى لأن تكون أمةً قوية، والله “سبحانه وتعالى” قال في القرآن الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، هذا يشمل إضافةً إلى الجانب المعنوي: قوة الإيمان، قوة الوعي، قوة الرشد…إلخ. يشمل أيضاً الجانب المادي: الإمكانات، الوسائل، أن تتجه الأمة لإعداد القوة على كل المستويات: القوة العسكرية، القوة الاقتصادية.

الاقتصاد في موضوع القوة المادية يدخل كعنوان أولي ورئيسي، فالأمة تحتاج إلى العناية باقتصادها، وأن تسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وأن تستثمر ما أعطاها الله من النعم على نحوٍ يجعلها أمةً قوية، يتوفر لها احتياجها الرئيسي: من غذاء، من دواء، من سلاح، من كافة الاحتياجات الطبية، والملابس، وما يدخل في عمرانها، ما يدخل في مختلف احتياجاتها، أن تسعى لأن تكون أمة تصنع وتزرع وتنتج، وأن تمتلك أيضاً ما تحتاج إليه من خبرة في هذه المجالات، من علم ومعرفة في هذه المجالات، أن تسعى هي لأن تكون أمة تحقق التقدم التكنولوجي، والتقدم على كل المستويات، هذا أمرٌ مطلوب، ومن منطلقٍ إيماني، من منطلقٍ إيماني، من أجل أن تكون أمةً قوية، تجاهد في سبيل الله، تدفع عن نفسها خطر الأعداء، تحقق لنفسها الاستقلال الحقيقي، فلا تبقى مرهونةً ورهينةً تحت سيطرة الأعداء وتحكمهم في كل أمورها.

عندما تكون الأمة معتمدةً في توفير غذائها واحتياجاتها الأساسية من بلدان أخرى، هذا نقص حتى في موضوع أمنها القومي، البلدان الأخرى تحسب في حساب أمنها القومي أن توفر احتياجاتها الأساسية الضرورية داخلياً، وأن تحقق لنفسها الاكتفاء الذاتي في ذلك.

فهذا المفهوم هو مفهوم مهم جداً، كفيلٌ- إذا استوعبته الأمة وانطلقت على أساسه- أن يكون عاملاً مهماً للنهضة.

لاحظوا، العرب باردين، لم يهتموا بهذا المجال، لم يهتموا بهذا المجال، عندهم برودة عجيبة، ولا مبالاة، ولا اكتراث في أن يكون كل شيء يحتاجون إليه حتى من الأعداء، من بلدان تحت سيطرة أعدائهم، أو من بلدان بعيدة يمكن لأعدائهم أن يحاصروهم ويمنعوا عنهم وصول تلك الاحتياجات في أي لحظة يتخذون القرار بذلك، وبالفعل أصبح من الوسائل الرئيسية التي يستخدمها أعداء الأمة في محاربتها: هو الحظر الاقتصادي والحصار الاقتصادي؛ لاستهداف أي بلد، ويؤثر هذا على بلداننا، لماذا؟ لأنها فرطت في الاعتماد على هذا المفهوم المهم والتحرك على أساسه، أن تعد ما تستطيع من قوة، وأن تكون أمة قوية، بلدان قوية، منتجة، مصنعة، تنتج احتياجاتها كافة، لا تحتاج أن تذهب إلى الصين لتوفر ملخاخ، إلى إيطاليا لتوفر صلصة، إلى أوروبا لتوفر أبسط الأغراض، أبسط الأشياء، إلى هنا أو هناك، إلى أستراليا، إلى آخر الدنيا، لتوفر لك القمح، لا، لتوفر لك مختلف احتياجاتك من بلدانك.

وهذا للأسف الشديد غاب عن أمتنا، فكان غيابه كارثة بكل ما تعنيه الكلمة، كارثة بكل ما تعنيه الكلمة، ومأساة، وارتبطت حركة التجارة بتوفير كل الاحتياجات من خارج هذه البلدان، بالذهاب إلى أوروبا، إلى شرق آسيا، إلى مختلف البلدان البعيدة هناك، لتوفير أبسط الأشياء، وتعطلت عملية الإنتاج حتى لما كان ينتجه الآباء والأجداد، بدلاً من أن نتجه إلى تطوير عملية الإنتاج لدينا فيما كان منتجاً منذ البداية، لم نعد نوفر في بلداننا حتى ما كان يتوفر لدى الآباء والأجداد، أولئك الذين يقول الكثير عنهم أنهم كانوا متخلفين وبائسين، وأنهم وأنهم، كم كان ينتج في اليمن من أشياء؟

الغذاء كان يتوفر في اليمن، الغذاء، وأكثر الناس يقتنون، وبالذات أن الغالبية كانوا يقطنون في الأرياف، ويتوفر لهم مختلف الاحتياجات الغذائية، عنده في المنزل، وبجوار منزلة: البقر، الغنم، الدجاج، عنده مزارع ينتج فيها القمح، وهناك تتفاوت هذه المسألة من شخص إلى آخر، وهناك تكامل فيما بين البشر، الآن كل شيء يأتي من الخارج من الخارج من الخارج، من الملخاخ الذي يحتاجه الإنسان بعد طعامه، إلى الصلصة، إلى أبسط الأشياء، ولا يزال الكثير يتجهون لتوفير كل الأشياء من الخارج، ويلعب التجار- نتيجةً لعوامل كثيرة- دوراً سلبياً في ذلك، بدلاً من الاتجاه للاستثمار في الداخل، وهناك مشاكل كثيرة، يمكن- إن شاء الله- نتحدث عن هذه المسألة في سياق حديثنا- إن شاء الله- في المحاضرات القادمة.

على العموم، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، يجعل من اهتمامنا بالقوة الاقتصادية مسألةً إيمانيةً ضمن التزاماتنا الإيمانية، وهذا أمر مهم وشيق وعظيم؛ لأنك من هذا المنطلق ستتحرك على أساس التكامل في الجهاد، وأنت تتحرك في الجانب الاقتصادي، وأنت تتحرك في أي مجال من مجالات الجانب الاقتصادي: زراعة، أو غيرها، يمكنك أن تتجه من منطلق تحظى فيه حتى بالفضل والأجر عند الله “سبحانه وتعالى”.

هذه على مستوى القيم الأساسية التي تمثل عاملاً مهماً في حسن التصرف مع نعم الله “سبحانه وتعالى”، أتت في القرآن الكريم، في الشريعة الإسلامية، تشريعات كثيرة، تنظم لنا الجانب الاقتصادي على أساس العدل، على أساس هذه القيم العظيمة على أساس محاربة الظلم والفساد، كم من التشريعات التي تنظم لنا المعاملات الاقتصادية، والاهتمامات الاقتصادية، وحسن التصرف في الموارد الاقتصادية على نحوٍ صحيح، على نحوٍ صحيح، هذا مجال واسع جداً، لا يمكن الحديث عنه في محاضرة، الحديث عنه واسعٌ جداً جداً، ومعروف هذا في القرآن الكريم.

أيضاً من الأشياء التي تكون حافزاً للاهتمام بالنهضة الاقتصادية هي: أن الدنيا مزرعة الآخرة، هذه كلمة معروفة الدنيا مزرعة الآخرة، الإمام عليٍّ “عليه السلام” نبَّه على ذلك، الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” كان يؤكد على ذلك كثيراً، في القرآن الكريم وردت الآيات الكثيرة التي تلفت نظرنا إلى أن الدنيا مزرعة الآخرة، حسن تصرفنا في هذه النعم، حسن تحركنا في هذه الحياة، هو الذي نؤمِّن من خلاله مستقبلنا الدائم في الآخرة، ونصل به إلى الجنة، عندما نقرأ في قوله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، لاحظ كيف المال هنا مزرعة للآخرة، تدفع، لكن مقابل ذلك الجنة تعطى، الدنيا مزرعة الآخرة.

عندما نقرأ عن الإنفاق والمنفقين، فيقول الله “سبحانه وتعالى”: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: من الآية274]، عندما يقول: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل: من الآية20]، هنا كل هذا يفيدك أن الدنيا مزرعة للآخرة، تعمل هنا، تحصل على مكاسب عظيمة في تلك الحياة الأبدية.

يركز القرآن على الربط ما بين الحياتين: الدنيا، والآخرة، فمن يحمل هذه الرؤية القرآنية هو الذي سيتصرف بشكل صحيح، علمنا الله أن نقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: من الآية201]، من يفصل موضوع الآخرة عن الدنيا كلياً، يرى أنه سيفقد الكثير من الوسائل التي يعمل من خلالها في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، ويبتعد حتى عن المفهوم القرآني في الاستخلاف للإنسان في الأرض، ويترك المجال للأعداء في كل شيء.

ومن يفصل أيضاً موضوع الآخرة عن الدنيا يتجه كل اهتمامه إلى هذه الدنيا: يفسد، يظلم، يبطر، يتكبر، يرتكب الجرائم، لا يشكر النعم، بل يستخدمها في معصية الله، فيما يضر ويسيء، فيما ينتج عنه الضرر والمفاسد.

نجد من خلال هذه الرؤية القرآنية: في كيفية استثمار النعم، وأن التحرك وفق تعليمات الله “سبحانه وتعالى” سيمثل حلاً للمشاكل الاقتصادية، والأزمات الاقتصادية، وفي سياق قولة “سبحانه وتعالى”: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}.

إن شاء الله نتحدث عن الموارد العامة في المحاضرات القادمة، على نحوٍ تفصيليٍ أوسع، بما يلفت النظر إلى ما أعطى الله فيها من الفرص الكبيرة التي تعالج مشاكلنا في هذه الحياة.

نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛