ثورة 21 سبتمبر.. اليمنُ خارج النصّ السعودي
مقالات:
عبدالله علي صبري:
على مدى أكثر من نصف قرن، كانت يدُ السعوديّة هي الطُّولى في اليمن، غيرَ أنَّ هذا الواقع تبخّرَ تماماً مع صبيحة 21 سبتمبر 2014، حين انتصرت الثورةُ الشعبيّةُ، وبشَّرت بعهدٍ سياسي جديد يقومُ على ضمان سيادة اليمن واستقلاله وكرامة مواطنيه، وعلى علاقات دولية متوازنة لا قبول فيها للتبعية لهذه الدولة أَو تلك، ولكن مصالح مشروعة متبادلة على أَسَاس من الندية والمعاملة بالمِثل.
أفاقت السعوديّةُ على يمنٍ جديدٍ ومختلفٍ عن يمن السبعينيات الذي عرفته وقولبته بما يخدُمُ مصالحها الاستراتيجية، ومنها ضمان بقاء حكومة مركزية ضعيفة لا يمكن أن يصدر عنها ما يمكن اعتباره خروجاً عن “بيت الطاعة” السعوديّ، فَـإنَّ حصل شيء من هذا القبيل، استطاع آل سعود عبر وكلائهم من قوى النفوذ التقليدية، التدخل لتغيير الحكومة، والإطاحة برأسها، وتنصيب بديلٍ مُرضٍ منه، غير أن من يتأمّل ويتعمّق في حقيقة الهيمنة السعوديّة على اليمن طيلةَ العقود الماضية، يلحظ بلا عناءٍ أنَّها شملت كُـلَّ مناحي الحياة، وكل فئات المجتمع تقريبًا، ساعدها في ذلك الحماية البريطانية – الأمريكية للعرش السعوديّ، والأموال الضخمة التي توافرت للمملكة بفضل الوفرة النفطية، في مقابل تردي الأوضاع الاقتصادية في اليمن واتساع معدلات الفقر بين اليمنيين.
وفي العام 1990، عاشت السعوديّة الهاجسَ نفسَه الذي هيمن على حكامها في العام 2014، إذ خشيت أن تكون حكومة اليمن أقوى عُوداً بعيد قيام الوحدة اليمنية في 22 أيار/مايو، فاستغلَّت على نحوٍ مبالَغٍ فيه الموقفَ الرسمي للجمهورية اليمنية المناهض للتدخل العسكري الأجنبي إثر الغزو العراقي للكويت، وسارعت إلى طرد مئات الآلاف من العمال اليمنيين في السعوديّة، ما شكّل عبئاً اقتصادياً كَبيراً على دولة الوحدة وحكومتها الوليدة، ألقى بظلاله على حياة أكثر من مليون أسرة يمنية كانت تعتمد في معيشتها اليومية على تحويلات المغتربين العاملين في المملكة.
وإذا كان هذا ما فعلته السعوديّة باليمن واليمنيين مطلع تسعينيات القرن الماضي، فإنَّها انتقلت إلى طور أكبر وأخطر من الإجرام والتوحّش، حين حشدت في 26 آذار/مارس 2015 تحالفاً دوليًّا كَبيراً للعدوان على بلادنا، انتقاماً من الثورة الشعبيّة المناهضة للهيمنة السعوديّة الأمريكية.
هذا التدخّل العسكري المباشر وغير المسبوق في العلاقات العربية العربيّة ليس إلا امتداداً لعدوان غير مباشر انتهجه آل سعود في تعاطيهم وتعاملهم مع الشأن اليمني جيوسياسيًّا واقتصادياً وثقافيًّا واجتماعياً، عبر آليات متعددة من الترغيب والترهيب، ومنها “اللجنة الخَاصَّة” التي أَدَّت دوراً كَبيراً في تطويع النخبة السياسية والقبلية، إلى أن تمكّنت الرياض من انتزاع اتّفاقية الحدود بين البلدين في العام 2000، وسط صمت يمني مطبق على الصعيدين الرسمي والشعبي.
وقد تسرَّب لوسائل الإعلام حينها أنَّ الرياض وزَّعت رشاوى على شيوخٍ يمنيين محليين ومسؤولين حكوميين وصلت إلى ما يقارب 4 مليارات دولار، لكنها حصَّلت أضعاف هذه المبالغ بعد الإعلان السعوديّ عن اكتشافات نفطية وغازية جديدة في مناطق حدودية مختلف عليها مع اليمن.
وخارج النخبة السياسية والقبلية، تمكّنت السعوديّة أَيْـضاً من التغلغل في العقل اليمني، من خلال المدّ الوهَّـابي ذي النزعة السلفية المتطرفة، على حساب المذهبين الزيدي والشافعي، ما أثر سلباً في شكل الهوية الإيمانية لليمنيين ومضمونها، وتطويع الآلاف من الشباب وتجنيدهم لخدمة الأجندة السعوديّة وتنفيذ سياستها الاستراتيجية في اليمن والمنطقة، بل إن السعوديّة سايرت المخطّط الأمريكي في اليمن، وساعدته عبر وكلائها المحليين في صناعة التنظيمات الإرهابية (القاعدة وداعش)، وتوظيف الإرهابيين والمتطرفين دينياً في خدمة المشروع الصهيو-أمريكي.
وقد عرفنا أنَّ اللجان الشعبيّة اليمنية تمكّنت بعد أسابيع قليلة من انتصار ثورة 21 أيلول/سبتمبر من الوصول إلى معاقل هذه الجماعات وأوكارها وتطهيرها، ما جعل داعش الكبرى تتدخّل عسكريًّا؛ لإنقاذ شقيقتها الصغرى.
على الصعيد الاقتصادي، دأبت الرياض على حصار اليمن وعزله عن محيطه الإقليمي والدولي، وبدلاً عن توجيه جزء من أموالها الضخمة للاستثمار فيه، فضَّلت انتهاج أُسلُـوب المنح والمساعدات، حتى يظلّ اليمن، حكومة وشعباً، في موقف المستعطي والمستجدي لآل سعود وأمراء النفط.
وفوق ذلك، فإنّها استعاضت عن هذه الأموال بأكثر منها، حين أبقت اليمن سوقاً مفتوحة للصادرات السعوديّة، بما في ذلك “المياه المعدنية”، فقد كشفت الأرقام أن اليمن استورد من هذه المادة لوحدها، ومن السعوديّة تحديداً بقيمة 9 مليارات و617 مليون ريال، وذلك خلال العام 2012!
وممّا يؤسف له أنّ مرتزِقة اليمن القدامى والجدد، الحداثيين والتقليديين، لم يتعلَّموا من دروس الماضي، ولا زالوا على غيّهم في الارتهان والخيانة والعمالة، وعلى نحو مقزّز، الأمر الذي أغرى آل سعود ومن خلفهم أولاد زايد، فأمعنوا في العبث والتطاول، إلى درجة أنَّ توقيع اتّفاق الرياض بين طرفي الصراع داخل مربع الارتزاق (الانتقالي الجنوبي وحكومة هادي)، جرت هندسته ليتم الإعلان عنه رسميًّا في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
وقد فهم المراقبون أنَّ هذا التوقيت الذي لا يمكن أن يكون صدفة، ينطوي على رسالة سعوديّة مفادها أنَّ حربها على اليمن ليست إلا؛ بهَدفِ استعادة حضورها وهيمنتها، كما فعلت في 5 تشرين الأول/نوفمبر 1967، حين دعمت الانقلاب على الرئيس السلال، وتمكّنت بعد ذلك من احتواء المد الجمهوري ومصادَرة القرار اليمني، الذي أصبح السفير السعوديّ صاحب الكلمة الأولى فيه، كما يفعل اليوم السفير آل جابر مع حكومة المرتزِقة.
وهكذا، دلَّت أحداث الماضي والحاضر على أن اليمن لا يمكن أن يكون دولة “سعيدة وسعوديّة” في الوقت نفسه، كما قال أحدهم، وهو ما يعني أنَّ الثورة في وجه آل سعود وعدوانه يجبُ أن تبقى مستمرة ومستندة إلى الوعي بحقيقة سياستهم وأطماعهم في اليمن.
وسواء توقف هذا العدوان العسكري أَو استمرَّ بأساليبَ أُخرى ماكرةٍ وغير مباشرة، فَـإنَّ على القيادة السياسية والثورية أن تواصل السير باليمن خارج النص السعوديّ، مع إعمال آليات مضادة لكبح النفوذ السعوديّ المتغلغل والعميق في بنية الدولة والمجتمع. ومن هذه الآليات التي نقترحها ونضعها بين يدي صانع القرار:
– مراجعة اتّفاقيات الحدود السابقة، واعتبارها ملغاة بحكم العدوان السعوديّ العسكري على اليمن.
– تجريم المال السياسي السعوديّ، وتحذير من يتعامل مع “اللجنة الخَاصَّة” من أفراد ومنظمات.
– المقاطعة الشعبيّة للبضائع السعوديّة، والعمل الحثيث على دعم السلع والصناعات الوطنية.
– استيعاب العمالة اليمنية في مشاريع استثمارية كبرى في الداخل، حتى لا تبقى هذه الورقة الاقتصادية سلاحاً في يد العدوّ السعوديّ.
– الرفض التامّ لأية منح اقتصادية أَو مساعدات إنسانية سعوديّة (وهذا لا يتعارض مع حقّ اليمن واليمنيين في التعويضات وإعادة إعمار ما دمّـره العدوان).