بقلم / عبدالرحمن مراد في اليمن ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي، بدأت حركةُ الانفتاح السياسي الذي تظافرت في تعزيزِ حركته ووجوده عدة عوامل دولية كانهيار المنظومة الاشتراكية، وإقليمية كحرب الخليج، ووطنية وتتمثل في تحقيق الوحدة الوطنية والسياسية بين شطرَي اليمن، ومن خلال هذه المتغيرات دخلت عدةُ مفاهيمَ جديدة في القاموس السياسي اليمني كـ: الوحدة، والتوافق، والتناوب، والشراكة الوطنية، والعدالة الانتقالية، كما لوحظ الإقبالُ المكثّـف على توظيف بعض المفاهيم الجديدة كالحداثة، والتحديث، والديمقراطية، المجتمع، المواطنة، الحريات، حقوق الإنسان… إلخ.
ومن اللافتِ للنظر أن توظيفَ تلك المصطلحات كان يتم دونَ نظر أَو تدقيق أَو حرص من أرباب السياسة أَو جماعة صناعة الخطاب السياسي أَو المؤسّسات ومراكز الدراسات التابعة للمنظومة السياسية، وقد ترك ذلك الإهمال ظِلالاً قاتماً على المفاهيم بعد الصراع الذي عاشته وتعيشُه اليمن منذ عام 2007م إلى اليوم الذي تشهدُ فيه شيوعَ المفاهيم الملتبسة، مثل الاستقلال والحرية والسيادة والتحرير… إلخ، فالصراعُ يترُكُ ظِلالاً قاتماً على المصطلح، وقد يحدث التباساً؛ بغية الوصول إلى انهيار النظام العام والطبيعي، وقد حدث ذلك من حَيثُ يدري أرباب السياسة ومن حَيثُ لا يدرون، إذ أن الفجور في الخصومة السياسية يُحدِثُ انهياراً قيمياً، وبالتالي تهديدًا واضحًا للنظام العام والطبيعي دون مراعاة لأية اعتبارات، إما عن جهل أَو غباء سياسي مفرط أَو التباس في مفهوم المواطَنة.
لقد وصلنا إلى مرحلةٍ تاريخيةٍ فاصلة في اليمن لا بُـدَّ لنا من الوقوف أمامها بقدرٍ واعٍ من المسؤولية الأخلاقية والمعرفية، فالصراعُ اليوم لم يعد صراعاً عادياً، بل يستخدم سيلَ المعلومات للوصول إلى أهدافه، وقد تكون أهدافُه هدمَ المفاهيم وتغييرَ المصطلحات وتفكيكَ النُّظم المعرفية؛ حتى يصل الخصمُ إلى حالة التيه، ولذلك فالانتصار في مثل معارك اليوم يبدأ من خلال ضبط المفاهيم وتحديد أبعادها النفسية والأخلاقية والمعرفية، فهي محك القيمة الفردية والمجتمعية ومحك المواطنة الحقة من غيرها.
كما أن السلاح التقليدي لم يعد كافياً وحدَه في إدارة المعارك، فالفنون كما في الحالة التركية تدير مشروعاً استعمارياً توسعياً ناعماً، تستخدم الدراما فيه والسياسَة والاقتصاد، وها هي تتمكّن من تثبيت قدمِها في العمق العربي بطُرُقٍ ناعمةٍ، فهي تتواجدُ في جزيرة سواكن بالسودان دون أن تثير ضجيجاً وتتواجد بقطر بغباءِ قادة الصحراء العربية، وتتواجد بالبحر الأحمر والعربي برضا المجتمع الدولي، فالصراع اليوم ليس كما في أمسه، فهو مختلف جِـدًّا، فالصراع والانتصار فيه يعتمد على قدرة الدول في توظيف الانفجار المعرفي بما يخدم مصالحها، ولذلك فبناء الفرد وتفجير قدراته وطاقاته من أهم الاستثمارات في هذا الزمن وذلك من خلال تحديد مفهوم الوطنية والمواطنة وفق قيم وأسس التطورات الحضارية الحديثة وبما يكفل مواطناً واعياً مستقراً نفسياً واجتماعياً، من خلال توفر حاجاته البيولوجية الأَسَاسية ومن خلال شعوره بالعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وهي عوامل تعزز من الانتماء وتشد من العزائم لتفجير الطاقات بصورة إيجابية وليس سلبية.
لكل مرحلة من تاريخ المجتمعات مفاهيمها الخَاصَّة التي تؤطر طريقة تفكير الأفراد والجماعات، وتحدّد هُــوِيَّة وطبيعة العلاقات بينهم، ولا تكاد تقتصر جدلية الفكر واللغة على إنتاج مفاهيمَ جديدة تستجيبُ للتحولات التي تطرأ على علاقة الفكر بالأشياء وبالعالم، بل تعمل على تحسين المحتوى العام للمفردات وتحسين المفاهيم في اتّجاه توسيع المحتوى الدلالي أَو تضييقه أَو تعديله بشكل من الأشكال.
ولذلك نقول: إن المعركةَ الثقافيةَ اليومَ لا تقل شأناً عن المعركة العسكرية، ولا بُـدَّ لنا من خوض غمارها بقدرة كبيرة حتى نحقّقَ الانتصارَ الذي نرغب، ما لم فنحن ندور في دوائرَ مفرغةٍ لا قيمة لها في الواقع ولا أثر لها في المستقبل، فدوائر التطور متعددة وتشمل إلى جانب الدينِ العقلَ والفنَّ، ولا بد من التوازن بين الدوائر حتى لا تطغى دائرةٌ على أُخرى فيكون الصراعُ تعبيراً عن النقص لا استقراراً من توازن الكمال بينهم.