مناسبة عيد الأضحى تذكرنا بحادثة تاريخية هامة جداً فيها درس عظيم، درس مهم، درس كبير في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، تقدم لنا الصورة الحقيقية للإيمان الصادق، للارتباط القوي والحقيقي بالله سبحانه وتعالى، فنبي الله إبراهيم هو أحد أنبياء الله العظماء ومن أولي العزم من الرسل، وفي الحادثة التاريخية التي تجلى من خلاله ومن خلال ابنه نبي الله إسماعيل (عليهما السلام) كيف يكون الإيمان الحقيقي، كيف يكون التسليم الحقيقي لله، كيف تتجسد المحبة الحقيقية لله سبحانه وتعالى، وتُترجم في واقع عملي قائم على التسليم والتفاني من أجل الله سبحانه وتعالى.
إيمان عظيم وتسليم مطلق
عندما نعود إلى ذلك الحدث الذي كان في مثل هذا اليوم المبارك في مناسبة عيد الأضحى، في يوم الأضحى، هذا الحدث المهم الذي قدمه القرآن الكريم، ونأتي إلى الآيات المباركة لنستفيد منها حول هذا الحدث المهم، نبي الله إبراهيم (صلوات الله عليه) حينما قرر الهجرة من عند قومه بعد ما أكمل الحجة عليهم، وبعد مواقفه العظيمة والكبيرة التي كان منها تحطيم الأصنام }وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ{(الصافات: الآيات من 99 -102) نبي الله إبراهيم (عليه السلام) الذي أقام الحجة لله على قومه، وضرب أروع الأمثلة في كمال الإيمان وتمام الإيمان، وهو الذي سماه الله خليلاً له فقال جل وعلا: }وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً{(النساء:من الآية125).
وعندما غادر قومه وهبه الله إسماعيل (عليه السلام) وحينما بلغ معه السعي أُبتلي نبي الله إبراهيم }قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى{ وأمام هذا الابتلاء، أمام هذا الامتحان كان الموقف الذي كان عليه إبراهيم نبي الله هو التسليم لله، كان أيضاً هو الموقف الذي كان عليه نبي الله إسماعيل هو التسليم لله أمام هذا الاحتمال أن يأتي الأمر الإلهي بالذبح بعد هذه الرؤيا: }قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ{ وكانت هذه الحادثة التاريخية التي تجلى فيها الإيمان العظيم وأثره في الارتباط بالله، والإيثار لطاعة الله فوق كل اعتبار، فوق كل شيء، والتضحية بكل شيء، والتقديم في سبيل الله بكل ما يلزم، بدون حدود، كان هذا في يوم الأضحى.
ويتواصل المشهد ليعلمنا نبي الله إبراهيم ونبي الله إسماعيل الدرس المهم في محبة الله، كيف هو الحب لله، وكيف يصنع الحب لله في نفس الإنسان، في تسليمه لأمر الله، في طاعته لله، في تفانيه مع الله، في عطائه لله }فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ{ إن تلك الحالة من الانقياد لله، وذلك الاستسلام لله، والطاعة وهما يتوجهان لتنفيذ ذلك التوجيه الإلهي إن نزل بكل استعداد، بدون تردد، بكل رغبة، الابن يقول لأبيه: }افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ{؛ لأن لأمر الله عند المحبين لله؛ لأن لأمر الله عند المحبين لله قيمة وأهمية فوق كل اعتبار، فوق كل شيء، والموقف أمام الأمر الإلهي عند المحبين لله هو التسليم، هو الطاعة، هو الانقياد، هو التنفيذ بكل رغبة وبدون تردد، وبكل اشتياق، }وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ{ ومن حينها سنت الأضاحي.
مشاعرمليئة بالتوجه إلى الله
درس آخر يقدمه نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل وهما يرفعان قواعد البيت الحرام إذ يظهر حرصهما الشديد وهما في الميدان العملي على أن يكون عملهم مقبول عند الله متوجهين إلى الله بالدعاء بأن يتقبل منهم:
يقول الشهيد القائد (رضوان الله عليه) وهو يتناول هذه الروحية العملية، روحية التوجه إلى الله والتسليم له التي تميز بها نبي الله إبراهيم وإسماعيل (عليهم السلام):
}وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}(البقرة: من الآية 126ـ128)ْ هنا يقدم إبراهيم وإسماعيل شخصيتين عندهم حيوية، واهتمام عالي، ومشاعرهم كلها مليئة بالتوجه إلى الله، والإخلاص لله، والتقرب إلى الله بكل عمل ممكن ينالونه متجهين لبناء البيت فيرفعون قواعده وبإخلاص لله }رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{ لاحظ كيف فيما يتعلق بالمسؤولية أليس شرفاً عظيماً لإبراهيم وإسماعيل؟ هنا في قضية الشعور بالجدارة أنها قضية يجب أن تنسف التي أصبح عليها بنو إسرائيل فيما بعد فرأوا أن الكثير مما حصل لهم بحيث أن فيهم أنبياء وورثة كتب، وأشياء من هذه، ونعم وأشياء وكأنها جدارة، هم جديرون، هم جديرون، فليس لله فضل!
هو شرف عظيم لإبراهيم وإسماعيل أن يوكل إليهم القيام بهذه المهمة، لكن لاحظ أليس هنا ذائبا في مسألة أنه يؤدي عملاً صالحاً يقبله الله، ناسيا موضوع [إذاً والله شرف عظيم حظيت به] وناسي أنه فقط يرى نفسه كبيراً، ويضخم نفسه، ذائب في الله، وفي العمل الصالح الذي يرضي الله }رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ{ هم يعرفون أهمية البيت الحرام كمعلم من معالم توحيد الله، والتوجه الواحد كقبلة، يتوجه إليها عباد الله الموحدون }رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ{ أنفسنا هذه نسلمها لك، هنا ألست تلمس أنه لا يوجد لديه التفاته لنفسيته على الإطلاق، ليس مستغرقاً لمشاعر: أنه نبي، أنه عظيم، أنه جدير بهذا؟ لا توجد هذه، كل ما لديه من اهتمام: أن يتقبل الله منه العمل الصالح، وأن يجعله مسلِّماًً نفسه تماماً لله، يخضع نفسه لله، ويستغرق كل ذهنيته كل تفكيره الذوبان فيما يرضي الله، الذوبان في معرفة الله، وفي حب الله، التسليم لله.
أهم الدروس التي نستفيدها من حياة نبي الله إبراهيم (عليه السلام).
أولاً : الانطلاقة بنية سليمة وصادقة مع الله ﴿إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ84﴾ الصافات.
عاشراً: الحرص على أن يكون العمل مقبول عند الله وخالصاً له {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ١٢٧ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ١٢٨}(البقرة)ْ
الاستعداد للتضحية والثبات مقام علمنا إياه نبي الله إبراهيم (عليه السلام)
في بداية تحرك نبي الله إبراهيم (عليه السلام) في مواجهة الطغيان تبرز ثقته العظمية بالله وتسليمه المطلق له حينما وقف وحيداً في مواجهة طغيان كبير، في مواجهة الشرك والباطل والطغيان، وفي مواجهة الجبروت، وسطر الله في القرآن الكريم له ذلك الموقف العظيم الكبير عندما ألقي به في النار، في نار مستعرة، جمعوا فيها الكثير الكثير من الأحطاب، وبنوا بنياناً }قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ{(الصافات:97). فحين تجعل من نفسك جندياً مع الله، نصيراً للحق، تعمل على إقامة الحق الذي هو من عند الله، وتواجه الباطل، والكفر، والشرك، تواجه الطاغوت والطغيان بكل استبسال وثبات، هذا مقام علمناه إبراهيم (عليه السلام) من مقامات العبودية لله. تتحرك في ميادين المواجهة مسلماً نفسك لله، وخاضعاً لله جل وعلا، معبداً نفسك لله، مستعداً أن تقدم نفسك قرباناً لله جل وعلا، ومستعداً أن تتحمل وأن تقدم أعباء المواجهة وما تتطلب إليه هذه المواجهة، حتى لو كان الثمن أن يلقوا بك في نار مستعرة تحرق جسدك، فأنت ذلك الواثق بالله، وأنت ذلك المستسلم لله، وأنت ذلك المتفاني مع الله، موقفك مع الله، وانطلاقتك مع الله هي له، وبه ليست مرتبطة بتوجه الآخرين من حولك، فإن هم توجهوا توجهت، وإن هم لم يتوجهوا أو ضعفوا ضعفت وتغيرت، إن هم انطلقوا انطلقت، وإن هم قصروا قصرت لا. انشداد نحو الله حتى لو كنت وحدك، حتى لو كنت في مقارعة الباطل، وفي ميادين العمل، وأنت تقوم بواجبك لإحقاق الحق، حتى لو كنت وحدك، وحتى لو قارعت الباطل وحدك؛ لأنك تثق بمن هو أعظم من الناس، بمن تعتبره الناصر والمعين، بمن تستمد قوتك في موقفك، في اهتمامك، في عملك، من قوته، لا من قوة الناس الضعفاء الذين ليس لهم حول ولا قوة إلا به. هكذا كان إبراهيم، يتحرك في هذا المقام من مقامات العبودية لله، والخضوع لله، والتسليم لله، وهو يتحرك جندياً لله، يقارع الباطل لوحده، يقارع الطغيان لوحده يستعد أن يضحي مهما كان حجم التضحية.
البراءة في الإسلام موقف أساسي فرضه الله سبحانه وتعالى وشرعه، وهي بمدلولها العام تعني المقاطعة، والعداء، والمباينة، لأنها براءة موجهة إلى عدوٍ يحمل الحقد والضغينة، يحمل الباطل، يعارض منهج الله سبحانه وتعالى حتى لا يسود في الأرض. وهذه البراءة بكل ما يندرج تحتها من مواقف أراد الله لها أن تكون موقفاً معلناً صريحاً، لأنه لا مكان في الإسلام لموقف عدائي يُدَّعى ثم لا يعلن، ولذلك جاء الأمر من الله سبحانه وتعالى بإعلانها بأكبر قدر ممكن لتكون صوتاً مسموعاً وموقفاً معلوماً يصل إلى كل الأعداء. وموقف البراءة هو موقف إيماني يعبر عن إيمانك، موقف ديني، موقف يمثل رضاً لله، وطاعة لله، واستجابة لله، وهو موقف عبادي، لا تنافر بينه وبين الأمور العبادية الأخرى.