نص المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443ه 04-04-2022

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
في سياق الحديث عن التقوى وعن المتقين فيما قدَّمه القرآن الكريم من علاماتهم، وصفاتهم، ونماذج من أعمالهم، وكذلك فيما عرضه مما وعد به الله “سبحانه وتعالى” عباده المتقين، وردت آياتٌ مباركة في سورة آل عمران، وفيها يتم الفرز بين التوجهات والاهتمامات لدى المتقين، وما يصلون من خلال ذلك إليه من الفوز العظيم، والنتائج المهمة، وما عليه غيرهم من الاهتمامات والتوجهات، التي نتائجها محدودة، ويعقبها الخسران.
يقول الله “سبحانه وتعالى”: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران: 14-17].
بدءاً بقوله “سبحانه وتعالى”: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}، الشهوات: هي غرائز لدى الإنسان، تدفعه غريزياً ونفسياً إلى متعلَّقات ومتطلبات هذه الحياة في جانبها المادي، سواءً على مستوى الحياة الزوجية، والحياة الأسرية، أو متطلبات هذه الحياة، مما يحتاج إليه الناس، من المال الذي يعتمدون عليه كنفقات في حياتهم، من الحرث والثروة الزراعية وما ينتج عنها، الثروة الحيوانية وما ينتفعون فيها من المنافع المتنوعة والمتعددة مما أنعم الله به عليهم، هي شهوات غريزية، والإنسان يندفع إليها غريزياً، ولكن المشكلة عندما تأتي حالة التزيين للشد إلى تلك الشهوات والمتطلبات والرغبات بشكلٍ كبير، حتى يتوجه إليها كل الاهتمام، كل التركيز من جانب الإنسان، وهذا ما يحصل للكثير من الناس، تتوجه كل اهتماماتهم، وتُستَغرَق كل جهودهم، وكل تفكيرهم، كل تركيزهم في هذه الحياة نحو هذه الشهوات، وهذه الرغبات، فيؤْثرون هذه الرغبات والشهوات، يُؤْثرونها على آخرتهم، إلى درجة أنه من الممكن أن ينحرفوا عن خط التقوى، أن يخدموا الباطل، أن يقعوا في الحرام، أن ينتهكوا حدود الله “سبحانه وتعالى”، أن يرتكبوا المعاصي بكل أشكالها وأنواعها، أن يتحمَّلوا الآثام والأوزار؛ بغية تحقيق أهدافهم ورغباتهم ومتطلباتهم المادية، فهذا يحصل للكثير من الناس، مع أنَّ الكثير لا يصلون أصلاً إلى مبتغاهم من ذلك، ومن يصلون إلى مستويات معينة، فيصبحون مثلاً أثرياء ومتمكِّنين، لا تنتهي أطماعهم، ولا يصلون إلى حد القناعة أصلاً، فهم يبتغون المزيد والمزيد، ولا يصلون إلى درجة أن يشعروا بالتمتع الكافي بكل ما قد حصلوا عليه، وتمكنوا منه، بل لا تزال تدفع بهم الأطماع والرغبات والشهوات نحو المزيد والمزيد، وما أكثر الذين يدفعهم ذلك إلى ارتكاب الآثام والمعاصي، وإلى استخدام الوسائل المحرمة، وإلى تجاوز شرع الله وتعاليمه وتوجيهه، ولا يصلون في نهاية المطاف إلى نتيجة؛ لأن كل هذه النعم، وكل هذه المتع، هي منافع مؤقتة في هذه الحياة، ويجب أن يستوعب الإنسان هذه الحقيقة؛ لأنها منافع مؤقتة، كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فهي منافع يعيش عليها الإنسان لمرحلةٍ مؤقتة، وبِقَدَرٍ معين، بمستوى معين.
ولذلك هناك فرق بين من يتجه إليها ويجعل منها كل مأربه في هذه الحياة، كل مطلبه، كل رغباته، كل اهتمامه، يتوجه كلياً نحوها بكل اهتماماته وتركيزه، فيجعلها هي الأساس، الأساس في اهتماماته، الأساس في أعماله، الأساس حتى في مواقفه، الأساس حتى في ولاءاته، يبني على هذا الأساس كل اهتماماته وتوجهاته في هذه الحياة، وبين نظرة المتقين، الذين ينظرون النظرة الواقعية، النظرة الصحيحة، على هدىً من ربهم، فيرون فيها منافع مؤقتة، لا ينبغي أن يتجه الإنسان إليها هي ليجعل منها غاية، ليجعل منها نهاية السؤول، وغاية المأمول، فيتوجه بكل اهتماماته نحوها، هي منافع لحياةٍ مؤقتة، ومنافع في أصلها مؤقتة، وكثيراً ما يشوبها الكثير من المنغصات.
وإذا اتجه الإنسان ليجعل منها وسيلةً لا غايةً، وتعامل معها بشكلٍ صحيح؛ فإنه سيستفيد ويكسب بدلاً من أن يتحمل الأوزار والآثام، يستفيد من ذلك الأجر والمثوبة عند الله “سبحانه وتعالى”، والإنسان يستطيع أن يجعل مثلاً من حياته الزوجية حياةً راقيةً ساميةً في إطار التقوى، يجعل من حياته الأسرية حياة راقيةً ساميةً في إطار التقوى، يجعل من اهتماماته المعيشية في هذه الحياة اهتماماتٍ موزونةً بمعيار التقوى، ومضبوطةً بمعيار التقوى، فيكون كل سعيه في ذلك موزوناً بالضوابط الشرعية، وبأهداف عظيمة، أهداف سامية، مثلما يأتي عن حال المتقين في مواصفاتهم، كيف يتعاملون تجاه ما منحهم الله إياه، وما مكنهم فيه،
أمَّا غيرهم فهم يتجهون بشكلٍ كلي، وباهتمامٍ كامل نحو متع هذه الحياة ومتطلباتها المعيشية والمادية، ويتحول كل اهتمامهم إلى اهتمامٍ مادي، فيتحول الأساس عندهم في اهتماماتهم، في مواقفهم، في أعمالهم، في ولاءاتهم، في عداواتهم، نحو الجانب المادي، هو الأساس عندهم، يحبون عليه، ويبغضون عليه، يتجهون فيه بكل الاهتمامات، هو المحسوب لديهم من وراء كل عمل، من وراء كل سعي، من وراء كل موقف، حساباتهم كلها حسابات مادية.
مع أنَّ الكثير- كما قلنا- لا يصلون إلى مبتغاهم من ذلك، فالبعض قد لا يمتلك في هذه الدنيا ولا حتى جراماً واحداً من الذهب، دعك عن القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، التي يمكن أن تمثل ثروةً هائلة، القنطار يقال- في بعض التقديرات- أنه ما يعادل مليء جلد ثور، يعني: كمية كبيرة جداً، والقناطير المجمعة، قنطار على قنطار على قنطار، يعني: أعداداً كبيرة من القناطير المجمعة من الذهب، أو المجمعة من الفضة، فالقليل من الناس الذين قد يصلون إلى امتلاك ثروات هائلة مادية ومالية، وأكثر الناس وأغلبهم حتى ممن سخَّروا كل اهتمامهم النفسي والذهني، وكل جهدهم العملي، نحو الحصول على متع هذه الحياة وثرواتها، هم يعيشون حالةً من البؤس، والعناء، والشقاء، وكما قلنا: قد لا يمتلك الكثير من الناس ولا مقدار جرام واحد من الذهب، ولا من الفضة.
ولذلك من الخطأ، ومن الخسران، ومن الحماقة، أن يتجه كل اهتمام الإنسان إلى الجانب المادي، فيجعل منه الأساس في أعماله، في مواقفه، في مسيرة حياته في هذه الحياة؛ لأن الإنسان لا يحتاج إلى ذلك أصلاً، لا يحتاج إلى أن يجعل من ذلك كل اهتمامه، أن يستغرق كل الجهد، وكل الاهتمام، وكل التركيز، بل أن يحوِّل حتى واقعه النفسي إلى راغبٍ كل الرغبة إلى نحوٍ غير طبيعي، إلى نحوٍ مفرط، هذا يحصل للبعض، حبه للمال، حبه لمتع الحياة يتحول إلى حالة رهيبة جداً من الحب الشديد، والطمع المفرط، طمع رهيب جداً، يفعل من أجله أي شيء، يرتكب من أجله أي معصية، وهذا يحصل للبعض إلى حدٍ رهيب.
لاحظنا مثلاً خلال هذه المدة مع العدوان على بلدنا، كيف كان البعض مقابل الحصول على شيءٍ من المال، قد يرفع احداثيات يتسبب فيها في استشهاد عدد كبير من الأبرياء من الأطفال والنساء، فينتج عن ذلك جرائم رهيبة جداً، وجرائم وحشية جداً، جرائم فظيعة للغاية، وكل ذلك من أجل أن يحصل على قليلٍ من المال، البعض يخون دينه، يخون أمته، يخون شعبه، يقف في صف الباطل، يسهم في ارتكاب الجرائم، يسهم في أن يلحق بشعبه الكثير من الظلم، بأمته الكثير من الظلم، مقابل أن يحصل على مكاسب مادية، أن يصل إلى تلك الرغبات.
ولربما- في واقع الحال- منشأ أغلب الجرائم، أغلب المفاسد، يعود إلى تلك الرغبة المادية الرهيبة، إلى ذلك التوجه المادي الكبير، الذي ينسى الإنسان معه كل شيء: ينسى الدار الآخرة، ينسى الله، ينسى الحساب، ينسى الجزاء.
في إطار التوجه المادي، والطمع المادي، والرغبات المادية، البعض يظلم حتى قريبه، شريكة في الإرث مثلاً، يظلم أخته، فيستحوذ على حصتها من الإرث، يظلم ابنته، فيأخذ مهرها، ويأكله سحتاً حراماً، يظلم أخاه القريب، أو الصغير؛ لأنه استطاع أن يخادعه ويغالطه فيأخذ من حصته من الإرث، أو يخفي عنه وثائق، فيصادر عليه بعضاً من الممتلكات؛ لتلبية أطماعه وأهوائه ورغباته.
ثم على المستوى الكبير: مستوى الدول، مستوى أنظمة، مستوى كيانات، تدفع بها أطماعها وأهواؤها ورغباتها المادية إلى أن ترتكب بحق الشعوب الأخرى، بحق الأمم الأخرى، الظلم، والجرائم، وأفظع الانتهاكات، نتيجةً لتلك الأطماع الرهيبة، والأهواء الكبيرة.
بينما نجد كيف أنَّ التربية الإيمانية، التربية على التقوى- ونحن في شهر التقوى- تجعل الإنسان يتعامل بتوازن، وواقعية، ويحسب حسابات أكبر، حسابات أعظم، حسابات أهم؛ لأن الذين يتجهون إلى هذه الرغبات المادية، وتتحول كل اهتماماتهم، وكل جهودهم، وكل مساعيهم نحو الجانب المادي، هم يتعاملون وكأن هذه الماديات وهذه الحياة هي كل شيءٍ، ولا شيء بعدها، فيريدون أن يغتنموا الفرصة، وأن يغتنموا هذه الحياة وهذه المتع إلى أقصى حد.
والله “سبحانه وتعالى” قال: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، بعد أن بيَّن لنا أنَّ هذه المنافع في هذه الحياة هي محدودة، هي مؤقتة، والحياة بكلها مؤقتة، وستنتهي، والإنسان مهما حصل عليه من الإمكانيات المادية، هي لفترة مؤقتة، وسيفارقها، فهناك عند الله “سبحانه وتعالى” {حُسْنُ الْمَآبِ}: حسن المرجع، الذي يتحقق فيه للإنسان من النعيم، والحياة الطيِّبة، والمتع السامية والحقيقية والعظيمة والراقية، ما يتميز عن كل متع هذه الحياة، وعن كل مادياتها، يتميز ما عند الله “سبحانه وتعالى” بأنه أرقى، وأعظم، وأسمى، وبأنه أكبر وأكثر، وبأنه يدوم ويبقى ولا يفنى، وهذا يفترض به أن يكون دافعاً كبيراً لرغبة الإنسان؛ لأنها في الأساس مشتهيات، لكن يأتي الشد إليها، ويأتي الإغراء بها في الدنيا، الإغراء بها والشد إليها في عملية التزيين التي تدفع البعض إلى أن يؤْثرها حتى على الآخرة، وكذلك تتحول إلى عائقٍ لدى البعض الآخر، عائق عن أن يستجيب للحق، عن أن يستجيب لله “سبحانه وتعالى”، عن أن يتحرك في طريق الحق، عن أن يقف موقف الحق، الكثير من الناس أكبر عائقٍ له عن أن يقف موقف الحق، هو: حساباته المادية، ومصالحه المادية، ومخاوفه على الإمكانات المادية… وما شابه.
{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، نحن عندما نستجيب لله “سبحانه وتعالى”؛ لن نخسر، ليس معنى ذلك أنه سيحرمك من الخير، مما تشتهيه أنت بغريزتك الإنسانية، في الدنيا يمنحك من رزقه، من فضله، من رعايته، أمَّا في الآخرة فما هو أعظم، وهو الذي يجب أن تتطلع إليه أكثر، فما في الدنيا ترى فيه وسيلةً وليس غاية، وسيلةً تبتغي به الدار الآخرة، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}[القصص: من الآية77]، وتعمل فيه في إطار التقوى، ليس هو الهدف، الهدف هي الدار الآخرة، هو وسيلة لهذه الدنيا.
{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، ولذلك يزيِّن الله لنا ما هو خيرٌ حقيقيٌ، وعظيمٌ، وكبيرٌ؛ لأن الإنسان يحب الخير لنفسه، فحتى بحساب غرائزنا المادية، رغباتنا المادية، شهواتنا، فالله يعرض علينا ما هو أعظم، وما هو أبقى وأدوم، وما هو أرقى وأسمى، ولهذا يقول: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}، العادة عند الإنسان إذا كان يحب شيئاً، وعُرِضَ عليه ما هو خيرٌ منه، يعني: أشياء مادية، لكن هناك أشياء مادية أعظم منها، أفضل منها، أسمى منها، {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}، الشيء الطبيعي أنَّ الإنسان يتفاعل، ما دام عُرِضَ عليه ما هو أعظم مما هو منشدٌ إليه أصلاً، مما يرغب فيه أصلاً، مما يشتهيه أصلاً، {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ}، {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}، يعني: الخير الذي يعرضه الله علينا، وهو خيرٌ من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، خيرٌ مما في هذه الدنيا من كل الثروات المادية الهائلة، التي لا يصل إليها أكثر الناس أصلاً، أكثر الناس يبتعد عن تقوى الله “سبحانه وتعالى”، وتضيع جهوده في هذه الحياة وهو لا يزال تحت خط الفقر طول مسيرة حياته، أو في مستوى محدود من الإمكانيات الضرورية، أو نحواً منها، ويخسر مع ذلك آخرته، وهو لا يحتاج إلى أن يخسر آخرته؛ لأنه- كما قلنا- يمكن للإنسان أن تكون اهتماماته المعيشية مهما بلغت في إطار التقوى، مهما مكَّنه الله فيه، مهما أنعم به عليه، لا يخرج عن إطار التقوى، تبقى وسيلة، ولا تتحول إلى غاية.
{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ}، فهذا الخير الذي يعرضه الله علينا ثمنه التقوى، ثمنه التقوى، وسيلة الوصول إليه هي التقوى، الطريق للحصول عليه هو بالتقوى.
{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}، {عِنْدَ رَبِّهِمْ}، من عطائه، برحمته، بفضله، بكرمه، برضوانه، ما يعطينا في هذه الحياة يعطينا على أساس الاختبار، ليختبرنا فيه، ويبقى ضمن ظروف هذه الحياة، ما فيها من المنغصات، ما فيها من المشاكل، ما فيها من العناء، والذين بأيديهم ثروات وإمكانيات يحتاجون إلى الجهد، إلى العناء الدائم، إلى الشغل المكثف، إلى الاهتمامات الدائمة… إلى غير ذلك، يحتاجون إلى أن يقدِّموا لذلك الكثير من همهم، من تفكيرهم، من جهدهم العملي.
أمَّا الذي يعرضه الله “سبحانه وتعالى”، فيقدِّمه لك برضوانه، برحمته، بكرمه، بفضله، فيكون شيئاً عظيماً جداً من عطاء الله.
{جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، جناتٌ في جنة الخلد، جناتٌ وبساتين عظيمة، شاسعة، فسيحة، كبيرة، ليست كما هو حال الكثير من الناس، الأغلب من الناس ما يمتلكونه مثلاً من إمكانات مادية، قد يكون قليلاً من المزارع، قليلاً من المدرجات الزراعية عندنا في الأرياف في اليمن، لا تكاد تتسع للثور إذا دخل إليها ليشتغل فيها، ضيِّقة وصغيرة، فيها القليل من أشجار القات، أو البن، وإذا بُذرت فيها البذور، كان محصولها من القمح، أو من الذرة، شيئاً يسيراً، وكم أخذت من الجهد، وكم أخذت من العناء، وكم أخذت من العمل.
أمَّا تلك فهي {جَنَّاتٌ}: بساتين في جنة الخلد، بساتين شاسعة، هائلة، كما قال عنها في آياتٍ أخرى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}[محمد: من الآية15]، فيها من كل الثمرات، ومن كل أصناف الفواكه، وعلى مستوى راقٍ عظيم، مثمرة بشكلٍ مستمر، {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}[الواقعة: الآية33]، كما قال عنها أيضاً في سورة الرعد: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}[الرعد: من الآية35]، الثمر مستمر، والأوراق- كذلك- ليست فقط لمواسم معينة، ثم تهل وتيبس في مواسم أخرى، وأوقات أخرى، هي مثمرة على الدوام بطيب الثمر، بدون عناء، بدون جهد، ولا تتساقط أوراقها، ولا تحتاج إلى عناء، لا في تحصيل الماء لها، ولا في العناية بها، من دون عناء.
{جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، الأنهار تجري من تحتها باستمرار، فالماء متوفر، لا تحتاج إلى عناء في سقيها، تحتاج إلى بئر، ثم البعض إلى بئر ارتوازية، إلى بئر ارتوازية عميقة، البعض قد لا يمتلكون ذلك، فيعانون أشد المعاناة في توفير الماء لها، المياه تجري من تحتها بشكل أنهار غزيرة متدفقة، في منظرٍ بهيجٍ وخلَّاب، وارتواءٍ دائم، لا تظمأ أبداً، تلك الأشجار في حالة ارتواء دائم، مورقة، مونقة، مثمرة على الدوام، بدون عناء، وعلى مستوى واسع، على مستوى واسع.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}، ليست لفترات مؤقتة، تنتهي عليك، أو تفارقها أنت، تخلد في ذلك النعيم الواسع جداً، الذي فيه من كل الثمرات، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}[البقرة: من الآية25]، تعيش للأبد، بدون مرض، بدون هموم، بدون أوجاع وأسقام، بدون حمية غذائية تمنع فيها من بعضٍ من الفواكه، أو ينتج لك أمراض معينة، تمنع عليك فواكه معينة، ذلك أمرٌ مختلف، هناك لا حمية، ولا مشاكل، ولا مشاكل صحية، ولا معاناة، ولا نزاعات، ولا خلافات، ولا صراعات، تهنأ بذلك النعيم، بدون أي منغِّصات، تعيش في ظروف مستقرة، ليس فيها أي صراع، أي هموم، أي معاناة، أي أذية، أي مشاغلة، أي ازعاج، لا يحصل لك هناك أي إزعاج من أي أحد، ولا بأي شيء، حياة هنيئة، ولا آلام، ولا أمراض، ولا أسقام… ولا أي شيءٍ من المعاناة، ولا أي شيءٍ من المعاناة، حياة تهنأ فيها بذلك النعيم.
{خَالِدِينَ فِيهَا}، فلا يعانون من الهرم، ولا من السقم، ولا من المرض، ولا من الموت، ولا من الشيخوخة، يبقون في صحة دائمة، يهنؤون بذلك النعيم للأبد.
فعندما تقارن، من خلال هذه المقارنة يتضح لك أنَّ الله يعرض عليك ما هو خيرٌ لك، كما قال: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}، {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}.
{خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، الحياة الزوجية هناك حياة راقية، وسليمة من كل العيوب، وسليمة من كل الشوائب.
{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}، ومع النعيم المادي، ما يجعله نعيماً حقيقياً وعظيماً وسامياً، هو النعيم المعنوي، أنَّ كل ذلك يحصل بتكريم من الله، وأنَّ الذين اتقوا يعيشون في ظل تلك الحياة السعيدة، الهنيئة، الطيِّبة، التي يتوفر فيها النعيم، وكل المشتهيات على أرقى مستوى، كما قال في آيةٍ أخرى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}[النحل: من الآية31]، {مَا يَشَاءُونَ}، كل أصناف النعيم، كل أصناف المشتهيات والرغبات على أرقى وأسمى مستوى، حياة طيِّبة، ولكنها كلها برضوانٍ من الله “سبحانه وتعالى”، بتكريم، بتكريم، الإنسان هناك يعيش في حالة التكريم تلك، كما قال في آيةٍ أخرى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان: الآية20]، {وَمُلْكًا}، على هيئة الملوك، كأنك هناك ملك، كأنك أمير، كأنك، يعني تحس بأن لك كرامة، بأن لك قدراً، بأن لك احتراماً، شخصية محترمة في الجنة، الكل يحترمك ويقدرك حتى ملائكة الله تحترمك وتقدرك، تُحِسُّ بتعزيز، بإكرام، بتقدير، حتى ظروف الحياة هناك، أساليب المعيشة، تقدم إليهم موائدهم بصحافٍ من ذهب، يخدمون لا يحتاجون إلى العناء في توفير احتياجاتهم ومتطلباتهم، هناك غلمان متخصصون في خدمتهم وتقديم كل ما يحتاجون إليه.
حالة التكريم، الحالة التي يعيشون فيها نتيجة رضا الله عنهم، ما يعبر عن ذلك الرضوان، وما يتجلى به ذلك الرضوان، يلمسونه بشكل رعايةٍ واسعةٍ من الله فيها كلها تكريم، تكريمٌ لهم، يعيشون معززين مكرمين، ينالون ما ينالونه، ويقدم لهم ما يقدم من النعيم في كل أجواء ذلك التكريم والرضوان.
والله “سبحانه وتعالى” برضوانه عنهم يرعاهم برعايةٍ عجيبة؛ لأن مسألة الاستضافة لمن أنت راضٍ عنه وتحبه وتقدره، تدفعك مثلاً- على سبيل المثال التقريبي والصورة التقريبية لنا- إلى أن تهتم به اهتماماً واسعاً، يعني: اهتماماً غير عادي، مثلاً: في واقع الحياة قد يكون لدى الإنسان اهتمام بضيوفه، أي ضيف، لكن عندما يكون هذا الضيف من تحبه، من ترضى عنه، من تقدره، من تعزه، فأنت أكثر حرصاً على أن تعتني به أكثر، أن تدفع عنه ما يؤذيه، أن تدفع عنه ما يزعجه، أن توفر له ما يرغب فيه بحسب إمكاناتك وقدراتك.
أما الله “سبحانه وتعالى” فهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وذو الفضل الواسع العظيم، وهو على كل شيءٍ قدير، ومع ذلك كما قال: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ففي الجنة هو بصيرٌ بعباده الذين اتقوا، يعلم ما يسرهم، يعلم ما يرتاحون به، ما يناسبهم، ما يلائمهم، ما يفرحون به، وقادرٌ على تحصيل ذلك، على أن يخلق ذلك، على أن يمنَّ عليهم بذلك، على أن يكرمهم بذلك، عالمٌ بخصائص النفس البشرية، ما يناسب كلاً منهم، وما يرتاح به، وما يفرح به، وما يناسبه، فينعم به عليه، وعالمٌ في الدنيا بحال الذين تتوجه كل اهتماماتهم مادية، فقادرٌ على أن يحوِّل اهتماماتهم تلك وأطماعهم تلك التي نسوا معها الله، ونسوا معها الدار الآخرة، وحولوا تلك المتع وتلك الرغبات إلى غاية، حولوها إلى غاية، يتوجه نحوها كل اهتمامهم، كل سعيهم، أن يحولها إلى عذابٍ لهم، فيعذبهم بها في الدنيا، {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.
إذاً هذا العرض المغري هو عرضٌ صادق من الله “سبحانه وتعالى”، هو يعرض علينا هذا النعيم، هو يعرض علينا تلك الحياة الأبدية السعيدة، النعيم الأبدي الذي لا ينقطع، يدوم ولا يفنى، ومقابله فقط التقوى، والتقوى هي بمتناول كُلٍّ منا، في هذه الحياة الأمور المادية ليست بمتناول كُلٍّ منا، مثلاً: قد ترغب في شيءٍ في هذه الحياة ولا تستطيع توفيره؛ لأنك لا تمتلك قيمته، إذا ثمنه مرتفعٌ جداً، وهو شيءٌ نفيس، لكن الوصول إليه يكاد يكون مستحيلاً للكثير من الناس، الذين لا يمتلكون إمكانات مادية كافية، فهذا المعروض من النعيم الأبدي من بساتين الجنة، يعني: الكثير منا ظروفه المادية لا يستطيع أن يوفر لنفسه بها ولو مزرعةً صغيرة، البعض عاجز عن أن يشتري حتى بقرة واحدة، عن أن يشتري- ربما البعض- حتى نعجة واحدة، ظروف صعبة لدى أكثر الناس، فما بالك بأن يشتري مثلاً مزرعةً كبيرةً جداً، تتوفر فيها كل متطلبات الزراعة من الماء وغيره، وتمويل العمل فيها على الدوام، هذه مسألة صعبة لدى الكثير من الناس، الذي يعرضه الله لنا ثمنه التقوى، التقوى التي نلتزم بها حتى في اهتماماتنا المعيشية، حتى في نشاطنا الزراعي والتجاري وغيره، فنجعل منه وسيلةً نبتغي بها الدار الآخرة، ولا نجعل منه غايةً نخسر بها الآخرة، ثمنه التقوى، التقوى هي في متناول كُلٍ منا، يأتي القرآن بنماذج من مواصفات المتقين؛ ليبين لنا التقوى، ويعرفنا على المتقين.
 {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: الآية16]، {الَّذِينَ يَقُولُونَ} من واقع إيمانهم، من اقع شعورهم، يقولون بوعي من عمق مشاعرهم،  {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
من أهم مواصفات المتقين: أنهم يستشعرون مسؤوليتهم تجاه أعمالهم وتصرفاتهم، فهم هنا يتوجهون إلى الله “سبحانه وتعالى” في طلب المغفرة، فيقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا}، إننا آمنا: آمنا بك؛ فاستشعرنا عظيم حقك علينا، آمنا بوعدك ووعيدك؛ فأدركنا أهمية ما نعمل، وما يترتب عليه من الجزاء في الآخرة، وما يترتب عليه حتى من العواقب والنتائج في هذه الدنيا، فأدركنا الخطورة في تصرفاتنا وأعمالنا، عندما نعصي، عندما نذنب، عندما نفرط، عندما نقصر، عندما نهمل، عندما نفرط في شيءٍ من التزاماتنا العملية الإيمانية فلا نقوم به، عندما لا نعمل ما ينبغي علينا أن نعمله، يستشعرون الخطورة، ليسوا مستهترين في أعمالهم، في تصرفاتهم، هم يدركون المسؤولية فيما يفعلون، فيما يتصرفون، في مواقفهم، فيما عليهم من التزامات إيمانية وعملية، ولذلك يطلبون من الله المغفرة، يطلبون من الله المغفرة، يدركون خطورة الذنوب، خطورة التفريط، خطورة التقصير، خطورة الإهمال تجاه التزاماتهم الإيمانية فيما أمرهم الله به، ويدركون الخطورة الرهيبة لتجاوز حدود الله “سبحانه وتعالى”، أو لفعل الحرام، مسألة خطيرة جداً لديهم، فهم يخافون من ذنوبهم، وتقصيرهم، وإهمالهم، وتفريطهم، ليسوا متهاونين، ليسوا مستهترين.
{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}؛ لأنهم يدركون أن ما يصل بالإنسان إلى نار جهنم هي ذنوبه، ذنوبه التي هي إما بشكل تفريطٍ فيما أمر الله به من الالتزامات العملية، وهذه من أخطر الذنوب التي يغفل عنها الكثير من الناس، ما علينا أن نعمله، ما أمرنا الله به.
أو بشكل انتهاكٍ لحرمات الله وفعل المحرم، فهم يدركون خطورة الذنوب أنها هي التي تصل بالإنسان إلى نار جهنم، هي التي تسبب للإنسان سخط الله، هي التي تسبب للإنسان المصائب الخطيرة والعقوبات العاجلة في الدنيا، هي التي تسبب للمجتمعات النكبات، مجتمعات بأكثرها تدخل في نكبات كبيرة؛ نتيجة ذنوب، نتيجة تقصير في مسؤولياتها، في واجباتها، في الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، تقصير في إتباع ما أنزل الله، تفريط تجاه توجيهات الله “سبحانه وتعالى”.
{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فهم يؤمنون بوعيد الله، ويوقنون بالآخرة، ويدركون أن النار هي العقوبة الحتمية على الإنسان المستهتر، أو للإنسان المستهتر المتهاون، الذي لا يرجع إلى الله، لا ينيب إلى الله، لا يستقيم على أساس هدى الله، لا يلتزم بتعليمات الله وتوجيهاته، فيصر، على عصيانه، يصر على تقصيره، يصر على تفريطه، فيدركون الخطورة في ذلك، ولذلك يضرعون إلى الله، وعندهم اهتمام عملي، ليسوا فقط يقولون ذلك، ثم لا يلتفتون إلى واقعهم العملي لمعرفة ما هم مقصرون فيه، فيتداركون ذلك، لمعرفة ما قد يكون الإنسان واقعاً فيه، مما فيه إثم في سلوكياته، أو في تصرفاته، أو في طريقته في أداء المسؤولية، فيقلعون عن ذلك وينتبهون، يقولون وهم يلتفتون إلى واقعهم العملي، يقيمون واقعهم العملي، يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ}[آل عمران: من الآية17]، {الصَّابِرِينَ}، الصابرين وهم يؤدون مسؤولياتهم العملية عندما يواجهون المشاق، أو الصعوبات، أو التحديات، الصابرين على ظروف هذه الحياة، التي يواجهونها وهم يستمرون في السير وفق منهج الله وتعليمات الله “سبحانه وتعالى”؛ لأن الكثير من الناس مشكلته في الصبر، أمام شهوات نفسه ورغباتها لا يصبر، فيرتكب المحرم، أو يقف في صف الباطل، أمام البعض من العوائق، أو الصعوبات، أو المشاق، في أداء المسؤولية، في فعل ما أمرنا الله به، لا يصبر، فيتقاعس عن ذلك، أمام أي مشاق، أو متاعب نفسية، أو جسدية، لا يريد أن يصبر، فيفرط في عملٍ مهم، أو يفعل ما هو من المحرمات.
فالصبر مسألة مهمة جداً وأساسية، والإنسان المؤمن هو أولاً يطلب من الله “سبحانه وتعالى” أن يفرغ عليه الصبر، الله يقول في القرآن الكريم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية127]، ثم هو يوطِّن نفسه على الصبر، يروض نفسه على الصبر، يستفيد من كل الوسائل التربوية التي ترتقي به، تمنحه القوة، قوة التحمل، تهيئه للاستعداد للصبر، من مثل صيام شهر رمضان، الذي هو عملية ترويضيه على الصبر، والإنسان يصبر على: أولاً على السيطرة على شهوات نفسه تجاه الطعام، والشراب، والمعاشرة الزوجية، ثم أيضاً يصبر على الجوع، على العطش، على متاعب معينة جسدية، عملية ترويضيه تكسب الإنسان قوة التحمل، وارتفاع المعنويات، والمزيد من القدرة والطاقة.
{الصَّابِرِينَ}، والصبر لا بدَّ منه، لا بدَّ منه، كثير من الناس يتهربون من المسؤوليات المهمة، كالجهاد في سبيل الله؛ لأنهم لا يريدون أن يصبروا، أو ظروف معينة، أو معاناة معينة، أو أحزان معينة؛ لأنهم لا يريدون أن يصبروا، فالصبر لا بدَّ منه في التقوى، في تحقيق التقوى لا بدَّ من الصبر، فبالتالي تعمل من خلال الصبر الأعمال العظيمة التي تقيك من عذاب الله، تقي الأمة من الخزي والهوان، تقي المجتمع من سيطرة أعدائه عليه، تقينا من مختلف الشرور، وتقينا من عذاب الله، ومن النار.
{وَالصَّادِقِينَ}، الصادقين في إيمانهم، عندما قالوا آمنا قالوها بصدق، آمنوا فعلاً، آمنوا بالله، آمنوا بوعده ووعيده، وكان لإيمانهم ثمرة هي التقوى، والصادقين في إيمانهم، في فهمهم لدينهم، فهموه بصدق، ولديهم المصداقية في أدائهم العملي، في التزامهم الإيماني، فيما عليهم أن يعملوا، وفيما عليهم أن يتركوا، مصداقية في الانتماء، في العمل، في الموقف، وهم من يتحرون الصدق فيما يقولون، من يتحرون الصدق في أدائهم لمسؤولياتهم، الصدق من أهم العناوين التي تترتب عليها مصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، الصدق عنوانٌ إيمانيٌ مهم، وأساسيٌ في تحقيق التقوى، ولذلك واقع المؤمنين المتقين أنهم أهل صدق، ويتحرون دائماً الصدق.
{وَالصَّادِقِينَ}، في التزاماتهم الإيمانية، والعملية، وانتماءاتهم، ومواقفهم، ويتحرون الصدق فيما يقولون.
{وَالْقَانِتِينَ}، هم دائماً في حالة خضوعٍ لله “سبحانه وتعالى”، خاضعين لله، خاشعين لله، ولذلك لديهم استعداد في طاعة الله في كل شيء، ليس هناك بالنسبة لهم تأثيرات سلبية لمزاجهم الشخصي، أو لنوازعهم وعقدهم الشخصية، فيأنفون من تنفيذ أي شيءٍ فيه رضاً لله، أو أمر الله به “سبحانه وتعالى”، المهم بالنسبة لهم هو رضوان الله، كيف يرضى عنهم، مقابل أن المهم لدى الكثير من الناس هو الناس وليس رضا الله، رضا الله هو المهم بالنسبة لعباده المؤمنين المتقين، ولا يأنفون، ولا يستنكفون، ولا يستكبرون من أن يعملوا ما هو رضا الله “سبحانه وتعالى”، ولو كان مزاجهم الشخصي قد لا ينسجم مع ذلك، أو كلام الناس، أو إثارة الناس، وبالذات أن البعض من الناس لديهم خبرة شيطانية في استثارة الإنسان تجاه عمل قد يكون مهماً، وفيه مرضاةٌ لله “سبحانه وتعالى”، فيأتون لاستثارة الإنسان؛ ليعيقوه عن ذلك العمل، مهما كان عظيماً ومهماً.
أو أحياناً في سياق العمل في سبيل الله وطاعة الله، والأعمال التي هي أعمالٌ منسجمةٌ مع التقوى، وقائمةٌ على أساس التقوى، قد يأتي من يثير فيك الحساسيات الشخصية، والحسابات الشخصية، والعقد الشخصية؛ لينفرك منها، ويجعل حساباتك فيها حسابات شخصية، مناصب، مواقع وهمية، مسميات معينة، حسابات معينة، وبالتالي تأنف، أو أحياناً بدافع العقدة تتوقف عن عمل معين، {وَالْقَانِتِينَ}، فهم في حالة خضوع تام لله، وانقياد تام لأمر الله “سبحانه وتعالى”، لا أنفة فيهم، لا كبر فيهم، لا عقد لديهم.
{وَالْمُنْفِقِينَ}، فنلاحظ مثلاً وصفهم بالمنفقين، حتى تكون نظرتنا صحيحة إلى مسألة الإمكانات المادية، أن المسألة بالنسبة للمتقين أنهم يتعاملون بها كوسيلة وليس كغاية، فهم يبتغون فيما مكنهم الله منها يبتغون الدار الآخرة، يستشعرون مسؤوليتهم فيها، فهم في حالة إنفاق من كل ما رزقهم الله، ومن كل إمكاناتهم التي مكنهم الله بها “سبحانه وتعالى”، وبشكلٍ مستمر، روحيتهم روحية عطاء.
في مقابل أن روحية البعض هي روحية أخذ، واستغلال، وانتهازية، واكتساب دائم، واستحواذ دائم، وطمع، فهم على العكس من ذلك، هم يحملون روحية الإنفاق، روحية العطاء، يجودون مما رزقهم الله “سبحانه وتعالى” ضمن التزاماتهم الإيمانية، في مقدمها الإنفاق في سبيل الله، ومن ضمنها الصدقات على الفقراء والمساكين، والإحسان إلى الناس، والإحسان إلى ذوي القربى، إلى غير ذلك.
{وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}، وهم أيضاً، ختم في هذه المواصفات ختمها بالاستغفار، وبدأها أيضاً بطلبهم للمغفرة، فهم على ما هم عليه من صبر عملي في ميدان العمل، ينهضون بمسؤولياتهم وواجباتهم، صبر في مقام التزامهم الإيماني وحذرهم من المعاصي والمحرمات، صدق، انقياد تام لأمر لله، إنفاق مستمر وروحية عطاء، طاعة تامة لله “سبحانه وتعالى”، هم لا يحملون حالة الغرور، الغرور والعجب بالنفس، فينظرون إلى أنفسهم بغرور كبير، يتصور أن الله يتمنى أنه قد مات ليدخله الجنة فوراً، هم لا يزالون يستشعرون تقصيرهم، وهم لا يزالون يخافون من الذنوب والمعاصي، وهم لا يزالون يستشعرون خطورة التفريط، خطورة التقصير، فيبادرون دائماً بالاستغفار وتلافي جوانب التقصير لديهم، حتى في وقت من أحسن الأوقات للذكر والدعاء والاستغفار، يخصصونه للاستغفار، هو وقت الأسحار، في آخر الليل ما قبل طلوع الفجر، ما قبل طلوع الفجر هو وقت السحر، وقت من أحسن الأوقات على مستوى قبول الدعاء، على مستوى قيمة الذكر والعبادة، على مستوى الأجواء الذهنية والنفسية للإنسان، وهو يتفرغ في ذلك الوقت لذكر الله “سبحانه وتعالى”، ويتوجه إلى الله “سبحانه وتعالى”.
في ذلك الوقت من يداوم على اليقظة فيه قد ينظر إلى نفسه أنه أصبح من عظماء أولياء الله، ومن العبَّاد الذين أصبحت مرتبتهم ودرجاتهم في التقوى والعبادة والإيمان عالية، فقد يحمل شيئاً من الغرور، وهم على العكس من ذلك، لا يشعرون بغرور لا تجاه أعمالهم واهتماماتهم والتزاماتهم، ولا تجاه قيامهم في مثل ذلك الوقت الذي يخصصونه للاستغفار؛ لأنهم يدركون أهمية ذلك الوقت فيما يطلبونه من الله، وأهم وأول مطلبٍ لهم هو طلب المغفرة، طلب المغفرة.
هذه النماذج يقدمها الله “سبحانه وتعالى” يعرفنا بها عن التقوى والمتقين، إضافةً إلى ما وعدهم الله به “سبحانه وتعالى”، هذه كلها في متناولنا جميعاً، في متناول الفقير والغني، في متناول المسؤول والشخص العادي مثلاً الذي هو مواطن ليس في موقع مسؤولية معينة، وهذه المواصفات في قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ}، هي تفيد الاستمرارية، هم هكذا بشكلٍ مستمر، البعض من الناس يصبر مرحلة معينة، بعد ذلك يتغير تماماً، يكون قانتاً منطلقاً بتسليمٍ تام لأمر الله، في طاعة الله، فيما هو رضا لله، لمراحل معينة، في مراحل يتغير، تصبح عنده أولويات، اعتبارات أخرى، يريد مناصب، يريد مكاسب، يريد أهدافاً شخصية، أو البعض من الناس يصل إلى مستوى معين فيدخل في عقد وإشكالات فيتوقف؛ أما هؤلاء فمواصفاتهم هذه تفيد الاستمرارية.
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛