اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
في سياق الحديث عن اليقين بالآخرة، وإيمان المتقين بوعد الله “سبحانه وتعالى” ووعيده، وما لذلك من تأثيرٍ كبيرٍ يساعد على التزام حالة التقوى في أعمال الإنسان وتصرفاته، في انتهائه وانضباطه تجاه حدود الله، وما نهى الله عنه، وفي اهتمامه بالقيام بما أمر الله “سبحانه وتعالى” به.
تحدثنا بالأمس عن الموت كبدايةٍ للرجوع إلى الله “سبحانه وتعالى”، ونهايةٍ لهذه الحياة، التي هي الفرصة الوحيدة للإنسان في العمل الصالح، في العمل بما يفوز به، ويؤمِّن به مستقبله الأبدي الدائم، وينجو به من عذاب الله “سبحانه وتعالى”.
وتحدثنا بالأمس عن اقتراب الساعة، وأننا آخر الأمم، وأنَّ البشرية في هذا الزمن هم في الحقبة التاريخية الأخيرة للوجود البشري، على مقربةٍ من قيام الساعة، إضافةً إلى أنَّ الموت بنفسه يعتبر فاصلاً قصيراً جدًّا، الإنسان يتصور ويتخيل ويتوقع عندما يبعث يوم القيامة أنه لم يمضي خلاله سوى فترة وجيزة، تقديرات البعض- الذين أكثروا- إلى عشرة ليالٍ، وتقديرات البعض بيوم، وتقديرات البعض ببعض يوم، بعشيةٍ أو ضحاها، كأنها فترة وجيزة جدًّا.
والحالة التي يمكن أن تقرِّب للإنسان هذه المسألة، هي حالة النوم نفسها، والله “سبحانه وتعالى” قال في القرآن الكريم: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}[الزمر: من الآية42]، الإنسان عندما ينام ويستيقظ، يستشعر فترة النوم التي نامها بأنها فترة وجيزة، قصيرة، بسيطة؛ ولذلك يوم القيامة عندما تبعث، الحال بالنسبة لك في مشاعرك في إحساسك، كما لو أنك نمت بالأمس واستيقظت اليوم، يعني: كالحالة التي نعيشها في مسيرة حياتنا عندما ننام ونستيقظ، فنرى أنَّ الفاصل الزمني ليس إلَّا عبارة عن ليلةٍ واحدة، أو ساعاتٍ محدودة… هكذا هي مشاعر الإنسان عندما يبعث يوم القيامة: كأنه عن قريبٍ أتاه الموت ثم استيقظ، والحالة كما في الحديث النبوي عن النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((لتموتنَّ كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون))، فلذلك المسألة قريبة جدًّا، لا ينظر الإنسان إلى الحديث عن الآخرة وكأنه حديث عن شيءٍ بعيدٍ جدًّا، الإنسان على مقربة كبيرة جدًّا.
والحالة التي هي حالةٌ استثنائيةٌ في مسألة الموت، هي: حالة الشهداء، كما بيَّن الله لنا في القرآن الكريم، وأكَّد لنا ذلك، عندما قال “جلَّ شأنه”: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران: الآية169]، فحالهم يختلف عن بقية الذين يموتون، هم يحظون بهذا الامتياز الخاص، وهذه الرعاية الخاصة لهم من الله “سبحانه وتعالى”، حيث يستضيفهم الله “سبحانه وتعالى”، ويمنحهم الحياة في تلك الضيافة، ويبقون في حالة الاستضافة الربَّانية إلى يوم القيامة، في حالة سعادةٍ، ورزقٍ، وحياةٍ حقيقية، وهذا يبين عظمة الشهداء، وعظمة الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، والقيمة الكبرى للتضحية في سبيل الله “سبحانه وتعالى”.
في مسألة اليوم الآخر، يقول الله “سبحانه وتعالى” يخاطبنا جميعاً، وما أهم أن يستذكر الإنسان هذه المسألة: أنه مخاطبٌ، فلا يتصور أنَّ الكلام يعني الآخرين وهو بمعزلٍ عن ذلك، يقول الله “جلَّ شأنه”: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة: الآية281]، اتقوا ذلك اليوم.
كيف نتقي ذلك اليوم؟ كيف نعمل ما يقينا من أهوال ذلك اليوم، مما يترتب على البعث في ذلك اليوم: من الجزاء، من الحساب، من النتائج الرهيبة، مما فيه من الأهوال الرهيبة والعظيمة؟
رسم الله لنا ذلك في القرآن الكريم، ذلك اليوم هو يوم الرجوع إلى الله، الرجوع إلى الله للحساب وللجزاء، والرجوع الذي لا يمكن لأحدٍ- كما قلنا بالأمس- أن يمتنع عنه، الله “جلَّ شأنه” في مسألة البعث ويوم القيامة كما قال في القرآن الكريم: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس: الآية53]، سبحان الله المقتدر على كل شيء، العظيم، المهيمن، القاهر، صيحة واحدة فإذا بكل الخلائق منذ آدم “عليه السلام” إلى آخر مولودٍ ولد من المجتمع البشري، في صيحةٍ واحدة يمنحهم الله الحياة، يبعثهم من مماتهم، يحشرهم إلى ساحة الحشر، بشكلٍ سريعٍ وهائلٍ جدًّا يفوق كل تصورٍ وكل خيال، من قدرة الله “سبحانه وتعالى”، من آيات قدرته، من تجليات قدرته “سبحانه وتعالى”.
فتأتي عملية البعث على الأرض التي حولها الله “سبحانه وتعالى” يوم القيامة إلى ساحةٍ مستوية وصعيدٍ واحد، تتحول لكي تتسع للحساب، تتسع للبشر، للمجتمع البشري في كل أجياله وأممه على مر التاريخ إلى نهاية الوجود البشري، لكي تتسع للجميع يحولها الله، ينسف ما فيها من الجبال، تنتهي ما فيها من المحيطات والبحار، وتتحول إلى ساحةٍ مستوية، كما قال عنها: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}[طه: الآية107]، كما قال: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}[الكهف: الآية8]، ليس فيها أي نبات، ولا أي أشجار، ولا أي غابات، ولا أي جبال، ولا أي أنهار، ولا أي مناطق مرتفعة، ولا أي مناطق منخفضة، ساحة مستوية بدقة، بشكلٍ دقيقٍ جدًّا، {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}.
في ذلك الصعيد الواحد، في تلك الساحة الواحدة يبعث الله ويحشر كل المجتمع البشري للحساب، قد اجتمع الكل، كل الأمم وكل الأجيال منذ فجر التاريخ، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود: من الآية103]، وما أعظمه من جمع! جمع هائل جدًّا، في مشهد رهيب، مشهد كبير، مشهد عظيم، ليومٍ عظيم، وشأنٍ عظيم، وأمرٍ عظيم!
مع ذلك الجمع الهائل، المجتمع البشري بكل أجياله، بكل أممه، في ذلك الصعيد الواحد، في تلك الساحة الواحدة، الكل في حالة خضوعٍ تام، في حالة استسلامٍ تام، في حالة انقيادٍ تام، ليس هناك من يتكبر، من يتعالى، من يتغطرس، الكل قد أتى بصفة العبودية، وفي حال العبودية كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}[طه: من الآية108]، حتى لو تحدثوا فيما بينهم، يتحدثون بصوتٍ منخفض، بأدبٍ تام، بخشوعٍ تام، وبصوتٍ منخفض، {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}، حالة من الرهبة، حالة من الهيبة الكبيرة جدًّا، حالة من الخشوع التام، والخضوع التام، ليس هناك من يمكن أن يتعنت، الكل ينقادون حتى لترتيبات عملية الحساب، وللإجراءات التي ينظمها الملائكة في حسم أمر الحساب، {يَوْمَئِذٍ}، كما قال الله “سبحانه وتعالى”، {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ}[طه: من الآية108]، فهم يستجيبون لكل التعليمات، وينتظمون وفقها دون أي تعنت، ودون أي تردد، بانقيادٍ تام، واستسلامٍ تام، على كثرتهم.
حالة رهيبة جدًّا، حالة خشوع وخضوع، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}[النبأ: الآية38]، حتى ملائكة الله يقفون في موقف الخاشع الخاضع، المستسلم لأمر الله “سبحانه وتعالى”، فلا يتكلمون إلا بإذنٍ من الله “سبحانه وتعالى”، {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}، مع كثرة البشر هناك انتشارٌ هائلٌ لملائكة الله، للشرطة الإلهية، إلى درجة أن كل إنسانٍ هناك من يقف بجانبه من ملائكة الله، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}[ق: الآية21]، كل نفس معها سائقٌ وشهيد، فسيطرة تامة على الوضع، وانتشار هائل جدًّا لملائكة الله “سبحانه وتعالى”، وإدارة حازمة وقوية لشؤون البشر، وشؤون الحساب، وإجراءات الحساب، وعملية الحساب.
والمسألة الهامة هي هذه: هي مسألة الحساب، بعد البعث يأتي الحساب؛ لأنه هدف أولي لمسألة البعث، الحساب الذي تتجلى فيه العدالة الإلهية، ويتجلى فيه للبشر، تتجلى مساوئ أعمالهم السيئة، وتتجلى لهم محاسن أعمالهم الحسنة.
للفائزين، للمتقين، للصالحين، للمستقيمين، للمستجيبين لله، يتجلى لهم عظيم عملهم، ثمرات أعمالهم، إيجابية أعمالهم، النتائج العظيمة لأعمالهم، ويفوزون فوزاً عظيماً، ويكسبون المكسب العظيم، فيرضون عن الله، ويرضون عن أنفسهم، وما قدموه، وما عملوه، ويسعدون بذلك.
ويتجلى للمجرمين، والمفرطين، والعصاة، والمقصرين، المتعنتين، المهملين، يتجلى لهم الفداحة الرهيبة جدًّا لأعمالهم، لخسارتهم، أنهم خسروا خسارةً رهيبةً جدًّا، وتتجلى لهم مساوئ أعمالهم، وما ينتج عنها، وما يترتب عليها، ويتجلى لهم ويتبين لهم كم كانوا مخطئين وخاطئين عندما تجاهلوا هداية الله، نداءات الله، دعوة الله “سبحانه وتعالى” التي وصلت إلى مسامعهم، إنذاره الذي وصل إليهم، فلم يحذروا، ولم يسمعوا، ولم يفهموا، ولم يقبلوا، وتعنتوا، فكانت النتيجة خطيرةً جدًّا.
في عملية الحساب يخرج الله لكل إنسانٍ من المكلفين من بني آدم كتابه وصحيفة أعماله، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: الآية14]، في مسألة توزيع الكتب تبدأ معها حتى هي، بل إن المؤشرات والعلامات تبدأ من بعد عملية البعث مباشرة، العلامات التي يتجلى للإنسان مصيره، وجهته، تبدأ من المرحلة الأولى.
كحالة المؤمنين المتقين، من بعد بعثهم واستيقاظهم، وإدراكهم أنهم أصبحوا في ساحة المحشر، ومشاهدتهم بالعيان لأحوال المحشر، اجتماع البشر، وأنهم في ساحة القيامة للحساب، تبدأ عملية الطمأنة لهم، {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}، هكذا يقول الله في القرآن الكريم من تلك اللحظة، (تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ)، {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}، وفي تلك الحال: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[الأنبياء: من الآية103]، تتلقاهم الملائكة بالطمأنة، بالبشارة، فيخبرونهم أن هذا يومكم يوم فوزكم، اليوم الذي ستتجهون فيه إلى مأواكم العظيم، إلى رضوان الله وجنته، فتأتي لهم الطمأنة، يقولون لهم، يقول الله في آيةٍ أخرى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت: من الآية30]، مع عملية الحساب وانتقالهم إلى مرحلة الاطلاع على صحائف أعمالهم وما وراء ذلك، تستمر لهم البشارات، يقول الله في القرآن الكريم أن الملائكة يقولون لهم، وأن الله يناديهم: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[الحديد: من الآية12]، فتأتي البشارات، والعلامات، والطمأنة، التي تستمر في كل مراحل الحساب حتى النهاية.
أما الآخرون فتبدأ الحالة الرهيبة جدًّا، والفزع الأكبر، والخوف الشديد جدًّا، والوحشة الهائلة، والقلق والاضطراب النفسي، والندم الشديد، وإدراك أن الخطر يقترب أكثر فأكثر، وأن الفاصل ما بينهم وبين جهنم أصبح فاصلاً قصيراً جدًّا، ليس سوى مرحلة الحساب، فيعيشون حالةً رهيبة من الخوف، والاضطراب النفسي، والندم الشديد، والتحسر الشديد، والشعور بالخزي، والحالات التي هي ضمن العذاب النفسي الشديد جدًّا، بحيث لو أمكن أن يموتوا؛ لماتوا، لو بقي موتٌ؛ لماتوا في ساحة المحشر من شدة العذاب النفسي، والغم الشديد، والضيق الشديد، والكرب الشديد، والاضطراب النفسي الهائل جدًّا، والغم الشديد، والحزن الرهيب جدًّا، حالة رهيبة جدًّا جدًّا، اجتمع الخوف الشديد، والحزن الشديد، والندم والتحسر الشديد، حالة رهيبة جدًّا تفوق أي خيال؛ إنما لأنه لم يبق مجالٌ للموت، يبقون على قيد الحياة.
في توزيع الصحف تكون عملية التوزيع- وفق ما ذكر الله في القرآن الكريم- فيها هي مؤشرات وعلامات واضحات، عن محتوى تلك الصحف، تلك الكتب، وعن مصير صاحبها، فالمؤمنون، المتقون، الفائزون، تقدَّم إليهم كتبهم من أمامهم، من تلقاء وجوههم، ثم يأخذونها بأيمانهم، يستلمونها بأيمانهم.
أمَّا الآخرون: الهالكون، الخاسرون، الخائبون، يستلمونها من وراء ظهورهم، وبشمالهم، يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وعملية متقنة، مسألة الصحف نفسها والكتب هي مسألة متقنة، لا يحصل فيها أخطاء، يغلطون فيعطونك كتاب غيرك، أو صحيفة غيرك، لا تستطيع إذا كنت ممن يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره، لا تستطيع أن تمتنع عن ذلك، أنت خرجت عن سيطرة نفسك، أنت ستفعل ذلك رغماً عنك، خرجت عن سيطرة نفسك، أنت تحت السيطرة، حتى منطقك تحت السيطرة، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ}[يس: من الآية65]، في مرحلة من مراحل الحساب، بعد أن تطلع على صحيفة أعمالك، أن تشاهد بنفسك نفسك وما تعمل، نفسك والمواقف التي وقفتها، نفسك وما عليك في الحالة التي تكون فيها خاسراً والعياذ بالله، إذا أنكرت ذلك، إذا حاولت من جديد أن تتعنت، وأن تتجاهل ما هو موثَّق ومصوَّر وواضح، تأتي شهادة جوارحك وأعضائك.
الحالة تلك يقول الله عنها: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق: 7-8]، تأتي له التسهيلات والتيسيرات حتى في مسألة الحساب، والحساب اليسير هو من أهم الأشياء في يوم القيامة بالنسبة للمؤمنين المتقين الفائزين، ليس هناك مضايقة، ولا تشديد، ولا- كذلك- معاتبة، ولا… مسألة ميسَّرة لهم، وإجراءات ميسَّرة؛ ولذلك يخلصون منها بيسر، بل تتحول بنفسها إلى مسألة تسعدهم؛ لأنهم عندما يطَّلعون على صحائف أعمالهم، فيشاهدون فيها أعمالهم الصالحة، ما قدَّموه في هذه الدنيا من عملٍ صالح، من أعمالٍ ترضي الله “سبحانه وتعالى”، من جهادٍ في سبيل الله، من تضحيةٍ في سبيل الله… مختلف الأعمال الصالحة التي هي رضا لله، ويرونها فيما هي فيه، فيما هي عليه، في مستوى عظمتها، في مستوى إيجابيتها، في مستوى قيمتها وما كُتِبَ لهم عليها؛ يرتاحون، يبتهجون، يسعدون، يدركون أنَّ جهودهم لم يضع منها شيء، كُتِبَ لهم عليها الأجر العظيم، والفضل العظيم، وثِّقت بكلها، حصرت بكلها، بكل تفاصيلها.
حتى- لربما- بعض الأشياء التي قد يكون الإنسان يتصور أنها أمور عادية، لكنها في سياق العمل الصالح، كتبت له ضمن عمله الصالح، وكُتِبَ له عليها الأجر؛ فيرتاح، ويسعد، يقول كما ورد في القرآن الكريم: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة: من الآية19]، هذه حالة من السعادة الغامرة، من الراحة الكبيرة، من الشعور بالفوز، من الشعور بأنَّ الإنسان- فعلاً- في مقام يتفخر فيه بما وفَّقه الله له، يتشرَّف فيه بما تضمنته صحيفة أعماله، فهو يحس بالشرف، بالسمو، بالكرامة، بالعزة، بالفوز؛ ولذلك يقول هكذا: {هَاؤُمُ}، يعرض على الآخرين [شوفوا كتابي، الحمد لله أعمال صالحة، أعمال عظيمة]، لربما يلتفت إلى رفاقه من المؤمنين وهو مبتهج وهو سعيد.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}[الحاقة: 25-27]، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا}[الانشقاق: 10-12]، والعياذ بالله، حالة رهيبة جدًّا، عندما يؤتى كتابه بشماله، من وراء ظهره، أدرك، ومشاعره من البداية، الإنسان يعرف نفسه، كما قال الله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة: 14-15]، لكنها حجج الله على هذا الإنسان، ويتجلى بذلك العدل الإلهي.
الكتب تلك والصحف فيها إحصاءٌ دقيق وشامل، وحصر بالدقة لأعمال الإنسان، لتصرفاته، لأقواله، كل ما هو في إطار التكليف، كل ما هو في إطار عمل الخير، أو عمل الشر، إحصاء دقيق وشامل، وهذا من الأشياء التي تخيفهم، بالنسبة للعصاة والمفرِّطين، من الأشياء التي تخيفهم جدًّا ذلك الإحصاء الدقيق، الذي لم يفت فيه مثقال الذرة من الشر، أو من التفريط، أمر رهيب جدًّا، ويقولون: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}[الكهف: من الآية49]، لماذا لم يترك- على ما يقولون- [شاردة وواردة] إلَّا وهي محصية، {صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}، أمر رهيب، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة: 7-8]، أمر رهيب جدًّا، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المجادلة: الآية6]، تكون هناك أشياء كثيرة مما كانت ضمن ما يتهاون به الإنسان؛ لأن مشكلة البعض- وهي من أخطر المشاكل- أنهم يجعلون مزاجهم الشخصي، وتقديراتهم الشخصية، هي المعيار في نظرتهم إلى الأعمال، يعني: يعتبر هذا عمل عادي، يعتبر هذا التفريط عادي، هذا التقصير بسيط، من مزاجه، من تلقاء نفسه، وفق هوى نفسه، يبسِّط ما يريد أن يبسِّط من الأعمال المهمة، من التفريط الرهيب، من الأعمال الخطيرة جدًّا، فيعتبر هذه بسيطة، ويمنِّي نفسه بالأماني، التي ينخدع بها، ويغر بها نفسه، وهذه مسألة خطيرة جدًّا، خطيرة جدًّا.
فعندما يأتي يوم القيامة، ويشاهد الإنسان صحيفة أعماله، ويشاهد الدقة فيها، وما ورد عن كثيرٍ من الأعمال التي كانت ضمن دائرة الأعمال المستبسطة التي يستهين بها، التفريط الذي كان يستهين به، تكون المسألة خطيرة جدًّا، ورهيبة، وينزعج جدًّا، تلك الأعمال سيحاسب عليها، سيجازى عليه، ذلك التفريط كانت آثاره خطيرة، والآثار الآثار وما أدراك ما الآثار! آثار الأعمال- في كثيرٍ من الأحيان- هي أشد من الأعمال نفسها، أكبر من مستوى العمل نفسه، تأثير العمل وخطورته كانت في آثاره، في نتائجه، فيما ترتب عليه، وهي مسألة خطيرة، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}[يس: من الآية12]، الآثار في بعض التفريط قد تستمر لأجيال، والوزر فيها محسوبٌ على الإنسان، أمر رهيب جدًّا.
ولذلك المسألة هامة جدًّا، وهذا من أكبر ما يزعجهم، {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}، أعمال كثيرة كانوا قد نسوها، لم يعودوا يتذكرونها، فتذكروا ولاحظوا كيف حسبت عليهم، وكيف كتبت، تكون المسألة مسألة رهيبة جدًّا.
ولذلك في تلك الأجواء يحصل الندم الشديد جدًّا لدى المعرضين المفرِّطين والعصاة، والحسرات الشديدة، وعندما يشاهدون تلك الأعمال وما يترتب عليها، يفكِّرون هل من مناص؟ هل من خلاص؟ هل من سبيلٍ، أو طريقٍ، أو وسيلة للتخلص مما سيترتب على ذلك من الجزاء؟ فيندمون، يتمنون لو أمكن أن يكون هناك أي وسيلة، إما فدية يفتدي الإنسان فيها من العذاب؛ لأنهم يدركون ما وراء الحساب، بعد الحساب العقاب، الجزاء، فيخافون بشدة، ويندمون بشدة، وتصل حالة الندم لديهم أنه لو كان للواحد منهم مثل الأرض بكل ما فيها، من ماديات، وإمكانات، وقصور، وأموال، وثروات، ومثلها معها، أو كانت الأرض بكلها كتلةً من الذهب، ومثلها معها، لافتدى الإنسان بها نفسه من عذاب يوم القيامة، لكن ما كانت حتى لتقبل، هنا في الدنيا حتى لو كنت فقيراً يقبل الله منك اليسير، ويعطيك عليه الكثير، لكل شيءٍ هنا في هذه الحياة من الأعمال الصالحة قيمته، أهميته، عظمته، ثوابه، أجره، بل ما يأتي من ظروفٍ صعبة أجره كبير، وفضله عظيم.
أمَّا هناك فالإنسان- والكثير من الناس أصلاً خسر وخاب وراء الأطماع، وراء الأهواء، وراء الرغبات المادية- فيوم القيامة هو يتمنى أصلاً لو كانت الأرض بكلها كتلةً من الذهب ومثلها معها ليفتدي بها نفسه من ذلك العذاب الرهيب، فكيف وقد خسر نفسه على التافه اليسير، سيصل إلى ذلك العذاب مقابل أشياء تافهة، أكثر الناس هم ممن هم أصلاً في دائرة الفقراء، والبائسين، والأشياء التي يحصلون عليها أشياء تافهة مقابل العصيان، أو أنهم وقفوا في صف الباطل… أو ما شابه ذلك، والذين حصلوا على أشياء معينة، هي أشياء أصبحت لا شيء بالنظر إلى العواقب الوخيمة، التي تصل بالإنسان إلى تمني أن يفتدي نفسه بالدنيا وما فيها، {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}[الزمر: الآية47].
بل إنَّ الإنسان على مستوى قرابته، أصدقائه، محيطه، بل كل الناس يتمنى أن لو أمكن أن يفتدي نفسه بهم، بهم، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى}[المعارج: 11-15]، لا تدبر في هذه الحياة، التفت، اقبل إلى الله، استجب لدعوته، يدعوك إلى الجنة، يدعوك إلى المغفرة، يدعوك إلى الرحمة، لماذا تدبر؟ لماذا تعرض؟ لماذا تصر وتتعنت؟ {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى}[المعارج: 17-18]، اتجه وراء اهتماماته هذا الحياة فحسب، ونسي الله الذي بيده خير الدنيا والآخرة، حالة رهيبة جدًّا.
لا يمكنك أن تفتدي نفسك بأحد، أو بشيءٍ من المال، لا وساطات، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر: من الآية18]، ما من وساطات، ما من إمكانية للتخفيف عنك حتى، أن يأتي أحدٌ فيتحمل من أوزارك، من ذنوبك ما يخفف به عنك، {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[فاطر: من الآية18]، أي نفس مثقلة من الأوزار، من الذنوب، من التفريط، من التقصير، فتدعو أحداً ولو من الأقارب، ولو كان الابن، أو الأب، أو الأخ القريب، أو البعيد، ليحمل شيئاً، {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}[لقمان: من الآية33]، فقط الأسر المؤمنة الصالحة، التي تلاقت أعمالها الصالحة فجمعتها في ذلك اليوم في جوٍ من الطمأنينة، والسعادة.
الحالة آنذاك في تلك اللحظات هي حالة التحسر الشديد على التفريط، {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}[الزمر: من الآية56]، حسرة شديدة تكاد أن تمزق الإنسان، وتمزق قلب الإنسان وفؤاده، لو بقي إمكانية لأن يتفجر الإنسان من التحسر، أن يتمزق من التحسر الشديد جدًّا، هي حسرة رهيبة جدًّا؛ لأن الإنسان أدرك أنه قد حصل على الفرصة، قد هيَّأ الله له الفرصة، لكنه أضاعها، {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}، {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الزمر: من الآية58]، لو يمكن أن يعود الزمن، أعود إلى الحياة، فأهتم بالأعمال التي ترضي الله “سبحانه وتعالى”، وأكون في درجة المحسنين حتى، كن الآن من المحسنين، لماذا يعرض الله لنا تلك التفاصيل؟ لماذا يعرض الله لنا في القرآن الكريم، ويذكر لنا، ويبين لنا حتى أقوال الإنسان وحسراته، أحواله تلك بالتفصيل؟ لكي نتفادى ذلك هنا، لكي لا نصل إلى تلك الحال، لكي ننتبه في هذه الفرصة، لكي ندرك قيمة هذه الفرصة التي لا تعوض، ولا بديل عنها.
حالة رهيبة جدًّا في ساحة الحساب، في ساحة الجزاء، مع عملية الحساب، مع الاطلاع على الصحف، وفي أجواء المحشر، تأتي جهنم، وتقرَّب، وأمر رهيب جدًّا عندما تأتي جهنم نعوذ بالله، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}[الفجر: من الآية23]، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}[الشعراء: الآية91]، جهنم التي سمع الإنسان عنها، سمع آيات الله “سبحانه وتعالى” وقرأها، وهي تتحدث له وتبين له الكثير عن جهنم، أصبحت المسألة مسألة المشاهدة، المشاهدة، {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}[التكاثر: الآية6]، وفرق رهيب جدًّا ما بين المشاهدة والعيان، وما بين السماع، نحن الآن نسمع ونقرأ، نتخيل صوراً تقريبية، نرى في الأرض نفسها مثلاً حالات البراكين الرهيبة جدًّا، استعار النيران في الغابات، مشاهد النيران، نراها فتكون عظة لنا، صورةً مصغرةً جدًّا، مصغرةً جدًّا، وصورةً تقريبية، والبراكين هي من أهم المشاهد التي يأخذ الإنسان منها العظة، والصورة التقريبية، بالذات أنَّ بعضها مشاهد رهيبة، مشاهد كبيرة، ولكنها لا تزال صورةً مصغرةً جدًّا عن جهنم؛ ولذلك من المهم أن يركز الإنسان على الاستفادة من تلك المشاهد؛ ليأخذ هذه الصورة التقريبية التي يكتسب منها العظة، والعبرة، والإزدجار، والتأثر النفسي، والإدراك لأهمية المسألة ولخطورتها.
في أحوال أهل الحشر، وبالذات الخاسرون، الخائبون، الهالكون، عندما تقدَّم جهنم، عندما يُجَاء بها، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}، أمر رهيب جدًّا بأصواتها الرهيبة والهائلة، بشكلها المخيف جدًّا، من الأحوال والحالات الرهيبة جدًّا، كيف هو خوفهم من مصيرهم إليها من المفرِّطين، والعصاة، والمذنبين، نعوذ بالله، نعوذ بالله!
كذلك فيما يتعلق بالمتقين، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}[ق: الآية31]، لكي ينتقلوا إليها.
فباكتمال عملية الحساب تبدأ عملية النقل، النقل من ساحة الحساب من المحشر، وتبدأ حالة الافتراق الأبدي بين البشرية، بين المجتمع البشري، على مستوى من كانوا في هذه الدنيا في مدينةٍ واحدة، أو لربما- في كثيرٍ من القرى- في قريةٍ واحدة، وفي كثيرٍ من الأحوال على مستوى الأسرة الواحدة، وسكان المنزل الواحد، يفترقون إلى الأبد؛ لأن البعض سيتجهون إلى الجنة، والبعض سيتجهون إلى النار، {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}[الروم: من الآية14]، وفي آيةٍ أخرى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}[الروم: من الآية43]، افتراق، كلٌ ذهب إلى دارٍ أخرى، إلى عالمٍ آخر، يفترق فيه عن الآخر للأبد، قد يكون البعض من الأسرة الواحدة، يفترقون للأبد، في تلك الحالة، في حالة النقل، النقل إلى جهنم والعياذ بالله، وهي مشاهد ستأتي، إذا سمعنا عنها الآن هي مشاهد ستأتي، وكما قلنا ليست ببعيد.
المحشر بالنسبة للمتقين إلى الجنة في عملية النقل لهم إليها، تأتي بتكريم، وهم في غاية السعادة، {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}[الحديد: من الآية12]، وهم في منتهى الفرح والسرور، سعادة لا يمكن أن نتخيلها، وفرح عظيم جدًّا، وشعور بالفوز، فينتقلون في أجواء من التكريم، كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا}[مريم: الآية85]، كضيوف، كوفد، وفد رفيع المستوى، بتكريمٍ عظيم، بطريقة عظيمة، بوسائل راقية ينتقلون.
أما نقل الآخرين الهالكين، المفرطين، العصاة المذنبين، {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}[مريم: الآية86]، يساقون بعنف، بشدة، هم لا يرغبون في الذهاب إلى جهنم، هم في منتهى الخوف، منتهى الفزع، في أسوأ حالٍ من الندم والقلق، والاضطراب، والهم، والحزن العميق جدًّا، حالة رهيبة للغاية، لكنهم يدعون ويدفعون دعاً ودفعاً، حتى يصلون إلى مشارف جهنم، وإلى أبوابها السبعة، والعياذ بالله حالة رهيبة جدًّا!!
في نقل أولئك الذين هم من أهل النار إلى أبواب جهنم، كما قال الله عنها: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر: الآية44]؛ لأنها دركات بحسب مستويات العذاب، وأدنى مستوى هو رهيب جدًّا، أدنى مستوى من العذاب في جهنم هو رهيبٌ جدًّا جدًّا، لا يماثله كل عذابات الدنيا، وأوجاعها، وآلامها، وأحزانها، وهمومها، لو اجتمعت بكلها، يعني: لو اجتمع كل ما قد حصل على البشر من أول مخلوق إلى آخر مخلوق، من حزن، وهم، وغم، وحسرة، وعذاب نفسي، وتعب نفسي، وآلام جسدية، وأوجاع في هذه الحياة، لو اجتمعت على إنسانٍ واحد، وأمكن أن تجتمع عليه في هذه الدنيا، لكانت هي بكلها أبسط وأيسر وأهون من أدنى مستوى من العذاب في جهنم، أمر رهيب جدًّا عذاب جهنم!
والحالة الرهيبة فيه، الدرك الأسفل، من ضمن من يعذبون فيه المنافقون، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ}، كما قال الله تعالى في القرآن الكريم، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء: الآية145]، وهم من كانوا يشهدون الشهادتين وينتسبون إلى الإسلام، أمر رهيب جدًّا، على أبواب جهنم، وحالة رهيبة جدًّا عندما يصلون، وأمر رهيب جدًّا، حتى الملائكة يوبخونهم، يوبخونهم على أبوابها ويرغمونهم على الدخول إليها، ويلقون بهم إلقاءً، هم لا يدخلون بطيبة نفس، لا يدخلون من تلقاء أنفسهم؛ إنما يلقون رغماً عنهم، وبشكلٍ إجباري، وبطريقةٍ مهينةٍ، وسحباً برؤوسهم، ودفعاً بالرغم عنهم يلقون في جهنم، نعوذ بالله!
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}[الملك: 7-8]، حالة رهيبة جدًّا، هي في أشد حالةٍ من الإستعار، {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ}؛ لأنهم أعداد كبيرة وهائلة من المجتمع البشري، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}[الملك: من الآية8]، يوبخونهم: كيف لم تنتبهوا؟ كيف لم تحذروا؟ كيف ورطتم أنفسكم هذه الورطة الرهيبة جدًّا؟ أمر رهيب، أمر رهيب، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}[ق: الآية30]، أمر رهيب جدًّا، أمر هائل!
بينما في انتقال أولياء الله المتقين، المؤمنين، الصالحين، المستقيمين، التائبين، إلى الجنة بشكل وفد، بطريقة مكرمة، يصلون، تستقبلهم الملائكة بالترحيب، بالترحيب، وموصلهم إلى أبواب الجنة فيه غاية السعادة والسرور، في الأخير وصلوا، جنة، رضوان الله، المبتغى العظيم الذي كانوا يؤمنون به بالغيب، وكانوا يثقون بوعد الله “سبحانه وتعالى” فيستجيبون له، في الأخير يشاهدونه، فيرونه أرقى وأسمى وأعظم بكثير مما كانوا يتخيلون، يفوق كل خيال، غاية السرور، أعظم مستوى من الراحة، من الانسجام، من الشعور بالفوز.
يصلون، تستقبلهم الملائكة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}، بالسلام وليس بالتوبيخ، بالسلام والتكريم، {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا}، تفضلوا (فَادْخُلُوهَا)، وهي لحظة لا تقدر، تفوق كل خيال ولا تقدر بثمن أبداً، تلك اللحظة، لحظة الدخول إلى عالم الجنة، {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر: من الآية73]، ادخلوها لتعيشوا فيها أحياءً مكرمين بسعادة أبدية، لم يبق هناك موت، ولم يبق هناك هرم، ولم يبق هناك مرض، ولم يبق هناك تعب، ولم يبق هناك هم، ولم يبق هناك مشاكل، ولا ضائقة، ولا فقر، ولا محن، ولا هموم، ولا أي شيء من المنغصات، {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ}[ق: الآية34]، يصل أهل الجنة الجنة، إلى حياتهم السعيدة الأبدية، إلى قصورهم، إلى مزارعهم وبساتينهم الرائعة جدًّا، إلى الحياة السعيدة، يجاورون فيها أنبياء الله، وأولياء الله.
ويصل أهل النار إلى النار، عندما يصلون: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}[الزمر: من الآية72]، نعوذ بالله! بدل الترحيب يقال لهم هكذا: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}، وتغلق للأبد، عندما يدخلون إلى النار تغلق ولن تفتح، تغلق للأبد، {خَالِدِينَ فِيهَا}، {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}[البلد: الآية20]، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة: 8-9]، {وَلَهُمْ} الخزنة والملائكة عليها {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}[الحج: 21-22]، يعادون بالضرب بمقامع الحديد والعياذ بالله!
أمر رهيب جدًّا، المهم أن ننتبه لذلك ونحن هنا في إطار الفرصة التي منحنا الله إياها، نحن في هذا الشهر الكريم من أهم ما ينبغي أن يحرص الإنسان عليه، وأن يركز عليه، أن يدعو بعتق رقبته من النار، أن يطلب من الله التوفيق.
نسأل الله أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.