نص الدرس الثاني من محاضرات السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي من دروس عهد مالك الأشتر 1443 هـ -2022م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
افتتحنا بالأمس دروسنا المتعلِّقة بعهد الإمام عليٍّ “عليه السلام” لمالكٍ الأشتر حين ولاه مصر، وكان تركيزنا في درس الأمس على:
-
الحديث عن مبدأ القسط والعدل، وأهميته في الإسلام.
-
ثم الحديث عن المنطلق الأساس لأداء المسؤولية، في الدولة، والحكومة، والمسؤولية العامة في نظام الإسلام، وهو منطلق العبودية لله “سبحانه وتعالى”.
-
ثم عن المهام والعناوين الجامعة للمسؤولية، وما يتفرع عنها.
-
ثم أيضاً أتى الحديث عن الأسس الإيمانية، والعلاقة مع الله “سبحانه وتعالى”؛ باعتبار ذلك من أول وأهم ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في أداء المسؤولية في نظام الإسلام.
ووصلنا إلى قول الإمام عليٍّ “عليه السلام” في سياق ما أمر به مالك الأشتر، قال “عليه السلام”:
((وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ)).
من أهم ما يؤخذ بعين الاعتبار في أداء المسؤولية: السيطرة على النفس؛ لأن كثيراً من الأخطاء، والتصرفات السيئة، والممارسات الخاطئة والظالمة، يكون منبعها- في كثيرٍ من الأحيان- هوى النفس، وشهوات النفس، ورغبات النفس، وعندما يكون الإنسان في موقع مسؤولية عامة، في أي مستوى من مستويات المسؤولية، ثم يتصرف في مسؤوليته وفق هوى نفسه، وفق رغبات نفسه، وفق أطماع نفسه، هوى النفس ورغبات النفس تشمل كل الميول النفسية، سواءً بدافع الرغبة والشهوة بشكلٍ أساسي، وهذا ما يؤثر على الكثير من الناس، ما يدفعهم إلى الفساد، ما يدفعهم إلى الخيانة، ما يدفعهم إلى الظلم، ما يدفعهم إلى العمل بطريقةٍ غير صحيحة ولا سليمة، ما يبعدهم عن تقوى الله “سبحانه وتعالى” في أداء مسؤولياتهم، هي الرغبات، هي الشهوات، هي الأهواء، فيتجهون إلى استغلال مناصبهم ومسؤولياتهم لتحقيق رغبات أنفسهم، وللتركيز على المصالح الشخصية فوق مصلحة العمل، فوق التزامات المسؤولية وفق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، ويحيدون عن تقوى الله “جلَّ شأنه” بسبب ذلك.
ففي موقع المسؤولية من أهم الأشياء: أن يسعى الإنسان للسيطرة على رغبات نفسه، على شهوات نفسه؛ حتى لا تؤثر عليه في عمله، فيتجه بدافع هوى النفس، ورغبات النفس، وشهوات النفس للعمل وفق هوى نفسه، لتلبية رغباته الشخصية، وليس لمصلحة العمل، وليس لأداء المسؤولية بشكلٍ صحيح.
((وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ))؛ لأن الإنسان في موقع المسؤولية قد يرى أنَّ الظروف قد تهيأت له بأكثر مما كان عليه الحال سابقاً، ما قبل أن يصل إلى منصب مثل ذلك المنصب، فيتصور أنَّ الظروف أصبحت مهيأةً له ليحصل على ما لم يكن يستطيع الحصول عليه، أو ليحقق لنفسه من المصالح الشخصية ما لم يكن يستطيع تحقيقه فيما قبل، فيعتبر موقع المسؤولية والمنصب والسلطة فرصة، تَمكَّن من خلالها للوصول إلى أهدافه، لتحقيق رغباته، فيزداد الطمع في نفسه، تزداد الحالة النفسية في الطمع، والجشع، والرغبة الشديدة، والشهوة الشديدة؛ لأنه رأى الظروف سانحة ومهيأة للوصول إلى ما يريده، فتشتد نفسه، وتتجه رغبته بشكل كبير، فالمسألة خطيرة، تحتاج إلى سيطرة قوية على النفس، ولهذا أتى الإمام “عليه السلام” بعبارتين مهمتين:
العبارة الأولى: قوله:
((أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ))
سيطرة قوية، أن يردها بكل قوة، وأن يوقفها عند حدها؛ حتى لا ينساق وراء رغبتها الشديدة، الناتجة عن تصور أنَّ الظروف مهيأة لتحقيق الأهداف، والمصالح الشخصية، والمكاسب الشخصية.
كذلك العبارة الثانية: قوله “عليه السلام”:
((وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ))
يَزَعَهَا: يمنعها بقوة، وهذا يحتاج إلى تذكير النفس بسخط الله، وغضب الله، وعذاب الله، وما يترتب على ذلك، وكذلك العواقب الوخيمة للسير وراء هوى النفس، ورغباتها، وشهواتها، وما يترتب على ذلك من سلبيات، ومن نتائج خطيرة على الإنسان في الدنيا والآخرة، وتنمية الاستشعار للرقابة الإلهية، يستشعر دائماً أنه يخضع لرقابة الله “سبحانه وتعالى” في كل الأحوال.
((فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ))
إذا اتجه الإنسان وراء رغبات نفسه، أهواء نفسه، ميول نفسه، فهي أمَّارةٌ بالسوء، تأمره بما هو سوء، بما هو معصية، بما هو انحراف عن نهج الحق والعدل، بما له تبعات من عذاب الله، وسخط الله، وغضب الله، والمقت من عباد الله، يصبح الإنسان ممقوتاً، مكروهاً، ينظر إليه عباد الله بنظرة سلبية جداً، وعواقب لها تأثيراتها على الإنسان في نفسه، في حياته، وسبب للعقوبات الإلهية العاجلة في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة والعياذ بالله.
فهذا جانبٌ مهمٌ جداً، عندما يلحظه الإنسان وهو ينطلق لأداء مسؤولية، في أي موقع من مستويات المسؤولية، سيتجه بنجاح؛ لأنه لاحظ أولاً: علاقته بالله “سبحانه وتعالى”، ولاحظ ثانياً: السيطرة على رغبات النفس، وأهوائها، وشهواتها، وهذا من أهم ما يساعده على الاستقامة في أداء مسؤوليته بشكلٍ صحيح، بشكلٍ نقي، بشكلٍ سليم، بما يبيِّض وجهه، بما يحظى من خلاله بمرضاة الله “سبحانه وتعالى”، وبالأثر الطيب في عباد الله.
((ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةً الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ، أَوْ كَرِهَتْ)).
يقدِّم هنا أيضاً درساً مهماً جداً، يجب أن يأخذه الإنسان بعين الاعتبار، في ظل المتغيرات التي تحصل في واقع المجتمع، في تبدل الدول، وتغير الحكومات والمسؤولين، كثيرٌ من الناس يصل إلى موقع المسؤولية، إلى منصب معين، إلى سلطة معينة، كان ما قبل ذلك مواطناً عادياً، وإنساناً عادياً، لم يكن في موقع السلطة، ولا في المنصب، وهو أيام كان مواطناً عادياً، وكانت نظرته من الواقع الذي يعيشه مع الناس، نظرته إلى المسؤولين، نظرته إلى الحكومة، أو إلى المعنيين في موقع المسؤولية، نظرة موضوعية، من خلال الواقع العملي، يقيِّم أداءهم، والعنوان الأساس الذي يبنى عليه التقييم في واقع المجتمع، للدول، والحكومات، والمسؤولين، والتصنيف الذي يبنى عليه ويعتمد عليه هو: العدل والجور، هل هذه الحكومة، هل هذا الشخص الذي هو في منصب معين، هل هذا المسؤول يتعامل على أساس العدل، أو هو جائر؟
فالإنسان قد يكون في تلك المرحلة وهو إنسان مواطن عادي، يتكلم عن أولئك، يقيِّم سلوكياتهم الخاطئة، ممارساتهم الظالمة، ينتقدهم، يتكلم عنهم، وفق تصرفاتهم، وسيرتهم، وأساليبهم، وطريقتهم في العمل، ويعيش مع الناس مشاعرهم تجاه أولئك، إذا كانت الحالة حالة ظلم، وجور، وممارسات ظالمة، وخاطئة، وجائرة، مشاعر السخط، والكلام بالانتقاد، والموقف على أساس ذلك، ويعيش مع الناس هذه الأجواء، هذه المواقف، هذه التوجهات، هذه المشاعر، موقفه موقف المجتمع من كل ذلك، وعندما يصل هو إلى موقع المسؤولية والسلطة، ينسى كل ذلك، ويتعامل بعيداً عن ذلك، يمارس نفس الممارسات الخاطئة، يتصرف بنفس الطريقة السلبية التي كان ينتقدها هو، وكان موقفه منها كموقف بقية المجتمع، وهذه حالة خاطئة جداً، معناه: أنَّ الإنسان يتنكَّر حتى لموقفه، ويتجاهل الواقع العام.
ولذلك الإنسان عندما يتحرك إلى موقع المسؤولية، فليدرك جيداً أنَّ مسؤوليته تتعلق بالناس، المسؤولية في الدولة، المسؤولية في الحكومة، في أي منصب من المناصب، في أي موقع من مواقع المسؤولية، هي مسؤولية تجاه الناس، وميدان المسؤولية هم الناس؛ ولذلك يجب أن تحسب حساب علاقتك مع هؤلاء الناس، وطريقة أدائك للمسؤولية، بعد أن تكون أولاً: حسبت حساب علاقتك بالله “سبحانه وتعالى”، والسيطرة على نفسك، ثم تحسب حساب علاقتك مع الناس، أن يكون أداؤك للمسؤولية أداءً سليماً، تقدِّم فيه النموذج الجيد، وتأخذ العبرة من تصرفات الآخرين، الذين كانوا قبلك، وكان لتصرفاتهم السيئة، ممارساتهم الخاطئة، ولما حصل منهم من ظلم، أثر سيئ عليهم، على أعمالهم، على موقف المجتمع منهم.
ولهذه المسألة أهمية من جوانب متعددة، بما أنَّ ميدان مسؤوليتك، وبما أنَّ عملك أصلاً مرتبط بالناس، أنت مسؤولٌ تجاههم، فمن صالح عملك، ومن مصلحتك أن تكون علاقتك بالمجتمع الذي هو في نطاق مسؤوليتك، وأنت مسؤولٌ تجاهه، أن تكون علاقةً إيجابية، علاقةً جيدة، هذا له أثره حتى في نجاحك في أعمالك ومهماتك، وفي أن يكون المجتمع بنفسه عوناً لك، عوناً لك في أداء مسؤوليتك؛ لأن المجتمع عندما يشعر أنَّ أهم شيءٍ عندك بعد رضا الله “سبحانه وتعالى”: أن تؤدِّي مسؤوليتك تجاه هذا المجتمع بشكلٍ صحيح، وأن تقوم بواجبك بحسب ما ينبغي، وأنك مخلصٌ في ذلك، صادقٌ في ذلك، جادٌ في ذلك، وأنَّ عندك اهتمام بالناس، اهتمام بأمر الناس، هذا له أثره الكبير تجاهك من جانبهم، في مشاعرهم، في تعاونهم، في نظرتهم إليك، فيكون لهذا نتيجته الكبيرة في الواقع العملي، يكونون عوناً لك على أداء مسؤوليتك، وتكون علاقتك مع المجتمع كشريك لك في إطار مسؤولية يتعاون فيها الجميع، هذا شيءٌ مهم.
أمَّا إذا كان الإنسان يتجاهل الناس، ومسؤوليته تتعلق بهم، لا يبالي بمشاعرهم، ولا بآرائهم، ولا بما يقولون، ولا بحالة السخط من تصرفاته الخاطئة، أو من إهماله وتقصيره وتفريطه في أداء مسؤوليته، فلذلك تأثيرات سيئة، تأثيرات سيئة؛ لأن هذا مؤشر كبير على فشله في أداء مسؤوليته، وعلى أخطائه في أداء مسؤوليته، فهو لم يأخذ العبرة ممن كانوا قبله، ومن النتائج التي نتجت عن ممارساتهم الخاطئة في موقف المجتمع منهم.
موقف المجتمع لا يبقى مجرد مشاعر، أحياناً يصل موقف المجتمع إلى مستوى ألَّا يطيقك، ألَّا يتحملك، أن يسعى لئلا تكون أنت من تكون في موقع المسؤولية تجاهه، يصل الحال في كثير من المجتمعات إلى الثورة، أو إلى أعمال وتصرفات تعبِّر عن سخط الناس، عن عدم تحملهم وطاقتهم تجاه مسؤول معين، أو قائم على عمل معين، فهذه المسألة مهمة.
فالإنسان معنيٌ بأن:
-
يقدِّم النموذج الصالح، النموذج الراقي في أدائه للمسؤولية.
-
وأن يستفيد من أخطاء من كانوا قبله؛ حتى لا يكرر نفس الخطأ، لا يكرر نفس الممارسات.
-
وأن يحرص على أن يكون له مصداقيته فيما كان ينتقده سابقاً، من الممارسات الخاطئة، والتصرفات الخاطئة، فلا يكررها هو، وتأتي كتصرفات يعتمد عليها، وممارسات تستمر من جانبه، وهو كان ينتقدها من الآخرين، ممن كانوا قبله.
-
ويحرص على أن تكون علاقته بالمجتمع علاقةً جيدة، علاقةً قائمةً على التعاون، على التفاهم، على الأخذ بعين الاعتبار مشاعر المجتمع، ومواقف المجتمع، وتعاون المجتمع.
-
وأن تكون الأمور واضحة للمجتمع، إذا كانت هناك ممارسات معينة، أو تصرفات معينة، أو قضايا معينة لها ردة فعل من جانب المجتمع، تسبب لردة فعل مبنية على فهم معين من جانب المجتمع، فينبغي أن تكون الصورة واضحة للمجتمع تجاه ذلك التصرف، أو تلك السياسة، أو ذلك الموضوع الذي نتج عنه استياء من جانب المجتمع.
فلا ينبغي نهائياً أن يكون هناك تجاهل لمشاعر الناس، لاستياء الناس، لآراء الناس، لأقوال الناس، وبالذات المجتمع الذي هو بعيدٌ عن التأثر في مواقفه، في توجهاته، بما يقوله الأعداء، هناك فرق بين ما يقوله الأعداء، ما يقوله الحاقدون، ما يقوله من لديهم مواقف ودوافع أخرى، وبين ردة الفعل من المجتمع الذي هو باقٍ على فطرته، ومواقفه هي نتيجةٌ لما يحصل من جانبك فعلاً، وليست تأثراً بما يقوله الآخرون، أو يسعى الأعداء من خلاله إلى تأليب الرأي العام تجاهك، فهذه مسألة مهمة جداً.
في هذا الإطار، أهم ما ينبغي أن تركِّز عليه في علاقتك بالمجتمع، وفي أداء مسؤوليتك تجاه المجتمع، هو: العمل الصالح؛ لأن من أسوأ ما ينحرف بك، ويؤثر عليك سلباً، عندما تكون اهتماماتك شخصية، توجهاتك شخصية، هدفك من المنصب الذي وصلت إليه: تحقيق الأهداف الشخصية، والمكاسب الشخصية، ولم تعد تبالي بالناس، ولا تكترث للناس، ولم يعد اهتمامك متجهاً نحو خدمة الناس في إطار مسؤوليتك تجاههم، لذلك تأثير سلبي عليك.
ولهذا عندما قال “عليه السلام”:
((فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةً الْعَمَلِ الصَّالِحِ))
لأن الكثير من الناس يكون همه من وراء المنصب الذي وصل إليه، ما يحقق لنفسه من مكاسب شخصية:
-
مادية: عن طريق الفساد المالي، أو الاختلاس، أو الابتزاز المالي… أو أي وسيلة غير مشروعة، يريد أن يحصل من خلالها على مال.
-
أو مكاسب أخرى: مكاسب معنوية… أو أي مكاسب غير مشروعة.
فهذه الحالة خطيرة جداً، تؤثر على الإنسان، ويمقته الله والناس، يرى الناس فيه، في طريقته في العمل، في أسلوبه، في اهتماماته، أنه لا يهمه إلَّا نفسه، لا يهمه إلَّا مصلحة نفسه، ليس مهتماً بالناس، ليس مهتماً بالمجتمع، ليس مهتماً بخدمة المجتمع من خلال منصبه وموقعه في المسؤولية.
فالتوجه الصحيح: أن تحرص على العمل الصالح، هو أكبر مكسب، لا تركِّز على كيف تخرج من هذا المنصب، أو كيف تحصل من خلال هذا المنصب على المكاسب الشخصية: المادية، والمعنوية… وغير ذلك، احرص على أن يكون المكسب الكبير، المكسب المهم، المكسب العظيم، الذي تحصل عليه من خلال مسؤوليتك، ومنصبك، وموقعك في المسؤولية، هو: العمل الصالح، الذي يمثل رصيداً عظيماً، ينفعك عند الله “سبحانه وتعالى”، فعندما تسخِّر كل جهدك، كل طاقتك، كل صلاحياتك، كل الإمكانيات التي هي في نطاق مسؤوليتك في العمل الصالح، والعمل الصالح أين يتجه ميدانه؟ إلى الناس، العمل الصالح هو يتجه إلى الناس، من خلال موقعك في المسؤولية، خدمة للناس، اهتمام بأمر الناس، تسخير لكل طاقاتك وتوظيف لكل قدراتك في خدمة الناس، ولكن وفق ما يرضي الله “سبحانه وتعالى”؛ لأن العمل الصالح يجب فيه أن يكون:
-
أولاً: مطابقاً لشرع الله وتوجيهاته وتعليماته، فلا تسخط الله بهدف إرضاء الناس، يعني: تعمل شيئاً محرماً، وشيئاً فيه الإثم والوزر من المحرمات، تسعى به إلى إرضاء الناس، هذا لا يجوز أصلاً، لابدَّ في العمل الصالح أن يكون مطابقاً لشرع الله وأمر الله.
-
وأن يكون بنية صادقة، تتقرب بذلك إلى الله “سبحانه وتعالى”، لا ترائي به، ولا يكون هدفك منه فقط مجرد السمعة، لا تكون هي الهدف السمعة الطيِّبة لدى الناس، اجعل هدفك هو مرضاة الله “سبحانه وتعالى”، والله هو الذي يمنحك العزة، ويجعل لك الود في قلوب عباده، مثلما قال في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}[مريم: الآية96]، مثلما قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8].
-
وفي العمل الصالح أن تلحظ فيه الاتقان.
تلحظ فيه: أن يكون مطابقاً لشرع الله، أن يكون بنية صحيحة وصادقة، أن يكون عملاً متقناً، فهذه الاعتبارات الثلاثة تجعل من عملك عملاً صالحاً، ويبقى هو الرصيد العظيم الذي له قيمته لك، يُكتَب لك، ويكون عاملاً لنجاحك، ويكون له الأثر الطيب في الواقع.
((فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ))
لأن هوى النفس هو من أخطر ما ينحرف بالإنسان عن العمل الصالح، ويؤثر عليه حتى في علاقته بالمجتمع من خلال موقعه في المسؤولية.
((وَشُحَّ بِنَفْسِكَ)): امنع نفسك وحافظ عليها مما لا يحل لك؛ لأن لذلك تبعاته، آثاره السيئة، العقوبة من الله “سبحانه وتعالى”، التشويه لك، تشوه نفسك بالأعمال التي لا تحل لك، عندما تمارس الفساد المالي، أو الابتزاز المالي، أو تمارس الظلم، أو تمارس الأثرة والاستبداد… أو أي تصرف سيئ لا يحل لك أن تتصرفه، عندما تتصرف من موقعك في المسؤولية، لذلك تبعاته في الدنيا والآخرة، وآثاره السيئة، ويشوهك، وله عواقبه السيئة عليك.
((فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا، أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ))
يجب أن تكون منصفاً، إذا أردت أن تصون سمعتك، أن تصون نفسك، أن تحافظ على نفسك مما له تبعات سلبية عليك، ومما يشوهك، فكن منصفاً، لا تتعامل بمزاجك الشخصي، كن منصفاً من نفسك، ومتجهاً إلى إصلاح أي خطأ يبدر منك، إلى تلافي أي زلة، إلى معالجة أي مظلمة؛ حتى تبقى مصاناً، ومحافظاً على نفسك من العواقب السيئة، والتأثيرات السيئة، للتصرفات الخاطئة والظلم الذي قد يحصل من جانبك.
ومسألة الصيانة للنفس، والحفاظ عليها مما له تبعات خطيرة؛ لأن موقع المسؤولية موقع حساس جداً، وإذا تصرَّف الإنسان منه تصرفاته ظالمة، أو جائرة، أو خاطئة، لذلك تبعاته، ويتحمل الإنسان الوزر والذنب، فليحرص الإنسان على أن يصون نفسه من ذلك، قد يأتي الإنسان إلى موقع المسؤولية وهو ما قبل ذلك يحمل رصيداً نظيفاً، سليماً من الأوزار الكبيرة والمخاطر التي قد تسبب له نار جهنم، فإذا وصل إلى موقع المسؤولية ورَّط نفسه ورطات كبيرة، استغل منصبه استغلالاً سيئاً، تحمل الأوزار، والآثام، والذنوب، وتشوه، وخرج من منصبه، إمَّا بموته، وإمَّا بعزله، وإمَّا بطرده، وهو محمل بالأوزار السيئة، والصيت السيئ، والذكر السيئ في أوساط الناس.
((فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ، أَوْ كَرِهَتْ))، يعني: وليس الانقياد وراء أهوائها ورغباتها، عندما يتجه الإنسان وراء رغبات النفس وأهوائها، هو يسيء إلى نفسه، هو يظلم نفسه، هو يجني على نفسه؛ بينما إذا حافظ على نفسه ومنعها مما لا يحل، وإذا أخطأ، أو تجاوز، عالج ذلك، بادر إلى إصلاح ما صدر منه من خطأ، ليس العيب في ذلك، لا يكابر، البعض من الناس أسلوبه في واقع العمل، في أداء مسؤوليته، أن يكابر، إذا حصلت منه زلة، أو خطأ، أو مظلمة، لا يريد أن ينصف، ولا يريد أن يتلافى ما حصل منه من خطأ، وهذا يسبب له الإثم والوزر، ويشوهه؛ أمَّا الإنصاف، أمَّا تلافي الأخطاء، فهو لا يشوه الإنسان، ولا يحط من قدره ومنزلته.
ثم يواصل الحديث ليبين أسس العلاقة مع المجتمع:
((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ، وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاكَ بِهِمْ، فَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ)).
نجد هنا الأسس المهمة للعلاقة مع المجتمع، وهي أسس قرآنية، أسس في منهج الإسلام وفي شريعته، ولا مثيل لها عند الآخرين أبداً، مثل هذا لا وجود له في دساتير، وأنظمة، ونظم، وقوانين الآخرين خارج منهج الله “سبحانه وتعالى”.
في العلاقة مع المجتمع، في إطار مسؤوليتك تجاهه، تبدأ هذه العلاقة من مشاعرك في قلبك، فيقول:
((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ))
الإنسان إذا كانت مشاعره نحو المجتمع مشاعر سلبية، ينظر إليهم باحتقار، ويحمل العقد تجاههم، وينطبع في انطباعاته الشخصية تجاههم بناءً على ما قد يحصل من البعض منهم من تصرفات، أو عبارات… أو نحو ذلك، فلهذا تأثيره السلبي والسيئ في طريقته في العمل، إذا انطلق في عمله من العقد النفسية، أو الاحتقار، أو الكره، أو النظرة السلبية إلى المجتمع، فسيكون أداؤه أداءً سيئاً.
لكن ما يجب أن تحمله، وما يربينا عليه القرآن الكريم، ما نتربى عليه في التربية الإيمانية، هو: أن نحمل الرحمة للناس، الرحمة هي من أعظم القيم الإيمانية، التي يتربى عليها الإنسان المؤمن، هو يتربى على الرحمة للناس، الرحمة للرعية، الرحمة للمجتمع، يحمل الرحمة كشعور في وجدانه، في قلبه، هذه تربية إيمانية يتربى عليها الإنسان ما قبل وما بعد، يستمر على ذلك، من له صلة إيمانية بالله “سبحانه وتعالى”، من يتربى على أساس هدى الله “سبحانه وتعالى”، فهو يتربى على الرحمة للناس.
((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ)): تشعر بذلك، وتحمل هذه المشاعر وأنت تؤدِّي مسؤوليتك، فتفيض هذه المشاعر، وتتجلى في أدائك العملي، في تصرفاتك، في ممارساتك العملية، في قراراتك، في أدائك العملي، تتجلى فيه الرحمة، تفيض الرحمة من مشاعرك إلى واقعك العملي.
((الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ))، مع الرحمة لهم في كل ما ينتج عنها ويترتب عليها:
-
من اهتمامٍ بأمرهم.
-
من حرصٍ عليهم.
-
من عنايةٍ بشؤونهم.
-
من تفاعلٍ معهم.