الرئيسُ الاستثنائيُّ صالح الصمَّاد

بقلم / عبدالله علي صبري*


تحلُّ الذكرى الخامسةُ لاستشهاد الرئيس اليمني صالح علي الصمَّاد، ولا يزالُ غالبيةُ اليمنيين يعيشون الألم الكبير، ويستشعرون الوجع الأكبر، غير مستوعبين أن العدوان السعوديّ الأمريكي تمكّن من اغتيال حاكم استثنائي قلما يجود الزمان بمثله.
– تسلَّم الرئيس الشهيد مقاليد السلطة في اليمن في ظروف استثنائية وضاغطة، حتمت عليه القبول بهذه المهمة الاستثنائية وتحمّل تبعاتها الجسيمة وكل ما يرشح عنها من تحديات كان يعرف سلفاً أنها تنتظره بمُجَـرّد أن يخطو خطوته الأولى إلى القصر الجمهوري في صنعاء، رئيساً لبلدٍ يعيشُ حالةَ حرب شاملة في مواجهة عدوان ضروس وغير مسبوق في تاريخ البلاد.
– ومثّلت خطوةُ الإعلان عن المجلس السياسي الأعلى والتوافق الوطني بين أنصار الله والمؤتمر الشعبي في العام 2016م إرادَةً وطنيةً خالصة، استجابت لنداءِ الواجب في ضرورة توحيد كُـلّ الجهود السياسية في مواجهة صنوف الحرب والحصار والأزمة الاقتصادية، ومحاولات دول العدوان والمجتمع الدولي فرض تسوية سياسية مذلة، تبدأ بإجراءات أمنية عسكرية ظاهرها وباطنها تجريد القوى الوطنية من أسلحة الصمود والتحدي، ولا تنتهي عند سلبها مقومات العزة والكرامة التي تبلورت على نحو أُسطوري بفضل الصمود الشعبي وانتصارات الجيش واللجان الشعبيّة في أكثر من جبهة.
– وإذ راهنت دول العدوان على إمْكَانية خلخلة التلاحم الوطني وتماسك وفدي المؤتمر وأنصار الله إلى المشاورات السياسية في الكويت، جاءت خطوةُ المجلس السياسي الأعلى لتقلب الطاولة في وجه العدوان السعوديّ الأمريكي ومرتزِقته، وتبشر بمرحلة وطنية أكثر قوة وصلابة، وأشد بأساً وتنكيلاً بالقوى الغازية التي احتلت كَثيراً من مناطق البلاد بزعم تحريرها من “الانقلاب الحوثي”.
– بعيد فشل مشاورات الكويت، وحين اعتقد العدوّ أن اليمن استنفد كُـلّ إمْكَانياته الاقتصادية بعد مرور ما يزيد على عام، باشر خطة التأزيم من جديد في ضوء تهديدات أمريكية أفصح عنها السفير الأمريكي على النحو المعروف لمن تابع مشاورات السلام اليمنية في الكويت.
– لم تمر أَيَّـام على هذا التهديد حتى كانت العملة الوطنية تشهد تراجعاً مخيفاً. وما هي إلا بضعة أشهر، وبالتزامن مع إعلان العدوّ نقل وظائف البنك المركزي إلى عدن، حتى أعلنت صنعاء عجزها عن الاستمرار بصرف مرتبات موظفي الدولة، ما ترك تأثيراً مباشراً في حياة نحو 8 ملايين مواطن يمني أَو أكثر.
– كان على الرئيس الصماد أن يقابلَ التحديَّ بالبحثِ الجادٍّ عن حلول بديلة، وكان تصميمه على البحث عن حلول عملية تخفف عن المواطنين والأسر التي فقدت المرتبات الشهرية، العامل الرئيس في ابتكار البدائل التي أمكن من خلالها امتصاص الصدمة الأولى للأزمة الاقتصادية الأعنف، والتي أسست للمعالجات اللاحقة، وأدت إلى تماسك الوضع في المناطق المحرّرة، على عكس المناطق والمحافظات التي كانت تقع تحت الاحتلال، إذ تضخمت العملة بشكل مضاعف.
– من جهة أُخرى، كان على الرئيس الشهيد أَيْـضاً أن يتصرف كرئيس توافقي، وأن يتخذ مواقف قد لا تنسجم في بعض الحالات مع قناعاته الشخصية. ومن حسن الحظ أن شخصية الصماد المتسامحة والمعتدلة أهلته لأداء الدور الوطني في رئاسة المجلس السياسي على أكمل وجه، الأمر الذي عزز ثقة الأطراف السياسية بمنهجه وحكمته، وساعد على تحريك عجلات مؤسّسات الدولة التي كادت تنهار لولا تدخل اللجان الثورية بشكل إيجابي، ما حال دون تلاشيها، وسمح لها بالنهوض بأدوارها الدستورية والخدمية، وإن في الحدود الدنيا.
– تشكلت حكومة الإنقاذ التوافقية، ودبت الروح من جديد في أجهزة الدولة والحكومة، وانتظمت جلسات مجلسي النواب والشورى، وعادت المحاكم والنيابات لتقوم بدورها في إطار الدستور والقوانين النافذة، وبات المواطن اليمني مطمئناً إلى جدوى التسوية السياسية الداخلية، وما انبثق منها من تماسك ملحوظ في مختلف جبهات المقاومة والصمود، ومن خطاب إعلامي متوازن كانت الأولوية في مختلف وسائله وبرامجه لمواجهة العدوان والمرتزِقة، ولتعزيز مسار إعادة بناء الدولة وتفعيل مؤسّساتها وأجهزتها في العاصمة وفي المحافظات التي تخضع لسلطة المجلس السياسي الأعلى.
– وساعدت هذه الحالة الجديدة والجادة على تماسك موقف الوفد الوطني التفاوضي، وحالت دون الرضوخ لإملاءات العدوان واشتراطاته المذلة التي حاولت استغلال الأزمة الاقتصادية واستثمارها، فضاعفت حدة الحصار على الشعب اليمني، ودفعت إلى التصعيد العسكري في مختلف الجبهات.
– شهدت صنعاء في ظل قيادة الرئيس الشهيد حالة من الاستقرار والطمأنينة، رغم كُـلّ المتاعب التي كانت تواجه الدولة والمجتمع، وانعكست هذه الحالة بشكل إيجابي على الجبهة العسكرية التي دخلت مرحلة متقدمة من تطوير قدراتها الدفاعية والهجومية؛ بهَدفِ خلق نوع من توازن الردع مع تحالف العدوان، إلا أن التحدي الأكبر كان يُختلق يوماً بعد آخر بفعل مؤامرات العدوّ الذي أدرك استحالة اختراق المعركة مع صنعاء وهي في حالة من الثبات والوحدة الوطنية بين مختلف الفُرقاء السياسيين، فعمد إلى إشعال الفتنة عبر أدواته الّتي رهنت قرارها للأزلام في الرياض وأبو ظبي، وتجاهلت أن قوتها تكمن في وحدتها واتّحادها مع الشعب الذي كان ولا يزال يسطر ملحمة التضحية والفداء؛ مِن أجل أن يحيا اليمن حراً كريماً، وأَلَّا يخضع قرارته السيادي لهيمنة هذه الدولة أَو تلك.
– لقد كانت فتنة ديسمبر 2017م أخطر التحديات التي واجهت صنعاء والرئيس الصماد أثناء العدوان. ولعل الأطراف التي اشتركت في التخطيط للفتنة وتنفيذها راهنت على الشخصية التوافقية للرئيس الشهيد، ظناً منها أنه قد لا يتمكّن من الحزم والحسم تجاه المشروع التآمري الخبيث، الذي لو لم يخمد بتلك السرعة لدخلت صنعاء حرباً أهلية لا حدود لتداعياتها ومآسيها، إلا أن حكمة الرئيس واتِّزانه في التعاطي مع بوادر تلك الفتنة كانت عاملاً من عوامل الحسم أَيْـضاً، فقد تمكّن الرئيس من الكشف عن الكثير من خفايا المخطّط التآمري، كما أمكنه تحييدَ الكثيرِ من الشخصيات السياسية والاجتماعية التي كان رأسُ الفتنة يراهنُ عليها في معركة صنعاء. كما أن الرئيسَ لم يكن بعيدًا عن الترتيب للمواجهة العسكرية والأمنية، وقد كان مقداماً حين اقتضت الضرورة، ونبيلاً حين ظفر بالنصر.
– كان في قلب الخطر، ومن الميدان، يتابعُ مجريات المواجهة التي اضطرّ إليها اضطراراً. ولما انجلت الغمة وسقط رأس الفتنة، وتمكّنت صنعاء أن تتنفس الصعداء، خاطب الرئيس الشعب بلغة متسامحة، وعمد إلى قرارات وخطوات حكيمة وشجاعة تمكّن من خلالها من معالجة آثار الفتنة بأسرع وقت، ولم تدفعه عظمة الانتصار إلى الثأر والانتقام، إنما راهن من جديد على وحدة الجبهة الداخلية، فأعلن العفو العام، ووجه بالإفراج عن مئات الأسرى المشاركين في الفتنة، وفتح يده وقلبه من جديد لقيادات المؤتمر الشعبي العام التي لم تنخرط في الفتنة، ومنحها فرصة استئناف النشاط السياسي والوطني تحت قيود مخففة، كان هدفها احتواء ما خفي من تداعيات الفتنة داخلياً وخارجياً، والحفاظ على الشراكة الوطنية في السلطة وفي مواجهة العدوان معاً.
– يقيناً، إن الرئيس الصماد واجه ضغوطاً كبيرةً، حاولت أن تدفعَه إلى إجراءات قمعية لا تتناسَبُ ومتطلباتِ مواجهةِ العدوان الخارجي، لكنه تحَرّك في إطار مسؤوليته الدينية والوطنية، وآثر تغليب الحكمة على الشدة والعنف، فأثبتت الأيّام صواب منهج الصماد، ورسخت مكانته وموقعه في قلوب الناس؛ فهتفت جموعهم بالمديح، ولهجت ألسنتهم بالثناء الحسن.
– لم تشغل السياسة وشؤون الحكم الرئيس الشهيد عن متابعة مجريات الحرب والمواجهة الميدانية العسكرية مع العدوان وأدواته، فكان متابعاً دائماً لكل المستجدات التي تخفى على عموم الناس، وكانت زياراته للجبهات لا تتوقف، سواء كانت هناك مناسبة للزيارة أم لا
– وكما أنَّ المواطنين بادلوا الرئيس الحب والاحترام، فقد كانت مشاعر المجاهدين جياشة بكل معاني الوفاء والتقدير لبطل كان دائماً إلى جوارهم، متغنياً بتضحياتهم وثباتهم وانتصاراتهم، ومتمنياً لو كان جندياً إلى جوارهم، يذود عنهم وعن الوطن، ويستميت في الدفاع عن حياض اليمن وسيادته واستقلاله.
– ولأن قلبه ووجدانه كانا هائمين في ميادين العز وساحات الوغى، فَـإنَّ لسانه وتعبيراته أفصحا عن تمجيد وتقدير كبيرين للمجاهدين الأبطال إلى درجة قوله إن “مسح الغبار عن نعال المجاهدين أسمى وأشرف من كُـلّ مناصب الدنيا”.
– أدرك العدوّ أنه أمام أنموذج مختلف من الساسة والحكام، فأطلق خطة الترصد والاغتيال، واجتهدت أدواته في تنفيذ المهمة التي شكلت الخسارة الكبرى لليمن واليمنيين طوال سنوات العدوان، لكنها بالنسبة إلى الرئيس الشهيد كانت بمنزلة الخاتمة الطبيعية التي تليق بالعظماء والأولياء الصالحين.
– هدّد العدوّ الأمريكي باحتلال الحديدة، زاعماً أن أبناءها سيستقبلون قوات العدوّ بالورود، فانتفض الصمَّادُ لا يلوي على شيء. ومن الساحل الغربي، هتف منذراً العدوانَ بجُهُوزية استقبال الحديدة لقواته، لكن بالبنادق والخناجر.
– ورغم الحشد الكبير والنوعي لمعركة الحديدة؛ فَـإنَّ كيدَ العدوان تبدد مع اللحظات الأولى للنهضة التهامية الصمادية. ومع أن العدوّ تمكّن من اغتيال الرئيس البطل، إلا أن دماءه الزكية والطاهرة شكلت خير متراس للساحل الغربي، ولمدينة الحديدة، التي ظلت وستبقى عصية على الانكسار كأخواتها صنعاء وصعدة وحجّـة وغيرها.
– ارتقى الرئيسُ سُلَّمَ المجد والشهادة. وقد ترك وراءه سيرة عطره مزدانة بالثقافة القرآنية التي كانت خير زاد استعان به الرئيس في مهمته الاستثنائية، كما كانت أبرز عنوان يتمثله سلوكاً حياتياً، لا شعاراً زائفاً، كما هو حال بعض أدعياء المسيرة والمنتفعين منها.
– من هذا المنطلق، لم يعرف عن الصماد أنه امتلك أرضاً أَو عقاراً جديدًا منذ بدء العدوان السعوديّ الأمريكي على بلادنا. وقد نقل عنه رفاقه قوله: “كل من يشتري أرضاً أَو يبني عقاراً هذه الأيّام – أي أَيَّـام الحرب – اكتبوا على جبينه كلمة فاسد”. وقد كان قوله هذا، ولا يزال، أبلغَ رَدٍّ على المفرطين والمفسدين.
– بقي أن نقول: إن تحَرّكات الرئيس الشهيد ومبادئه وثقافته وإحساسه الكبير تجاه المسؤولية الملقاة على عاتقه رسمت معادلات الصمود الوطني بمفهومه العميق والشامل، وشكلت القواعد المتينة للنصر المبين الذي تلوحُ بشائرُه يوماً بعد آخر. وكما تمكّن الرئيسُ الذي أعاد تعريفَ الزعامة السياسية أن يحفر اسمَه في سجل الخالدين، فقد زاحم بآثاره وإيثاره السابقين من الحكام الصالحين والمصلحين على نُدرتهم في تاريخ الأُمَّــة والبشرية.
* السفير اليمني في سورية