حديثنا مستمرٌ عن أهمية التقوى، وما تعنيه للإنسان، على المستوى الشخصي، وما تعنيه للمجتمع وللأمم بشكل عام، وسبق لنا الحديث عن بعض نتائج التقوى، وما تحققه للإنسان، وما يتحقق له بها في عاجل الدنيا، ويأتي من أهم ما يتعلق بالتقوى: هو ما تعنيه لنا بالنسبة لمستقبلنا الأبدي، في عالم الآخرة، الحياة الأبدية التي خيرها خالص وشرها خالص. للتقوى أهميةٌ كبيرةٌ جدًا بالنسبة لنا تجاه ذلك.
الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” يقول في القرآن الكريم مخاطبًا لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 18-20]، لتقوى الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” أهميةٌ كبيرةٌ لكلٍ منا تجاه مستقبله المهم جدًا في عالم الآخرة، فالله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” عندما خلقنا في هذه الحياة، جعل حياتنا ووجودنا في هذه الحياة مرتبطًا بمستقبلنا في عالم الآخرة، وحياتنا في عالم الآخرة مرتبطة بحياتنا هنا.
وهذه النظرة مهمةٌ جدًا من جانب الإنسان، أن يؤمن بهذا الارتباط بين الحياتين الأولى والآخرة؛ حتى لا تكون نظرته، وبالتالي اهتماماته، وتوجهاته، وكل تركيزه، متجهٌ فقط إلى هذه الحياة، وغافلًا تمامًا عن مستقبله في الآخرة، هنا تكمن الخطورة: عندما تكون توجهات الإنسان، توجهاته واهتماماته، وكل تركيزه إلى هذه الحياة، ومنفصلٌ تمامًا، عن مستقبله الآتي حتمًا في عالم الآخرة، فلذلك يحذرنا الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” وينبهنا، حتى لا نقع في هذه الغفلة التي يقع فيها الكثير من الناس، فلا يحسبون حساب مستقبلهم في الآخرة، ولا يتقون الله في أنفسهم تجاه ذلك، فيورطون أنفسهم نتيجةً لهذه الحسابات، التي يفصلون بها مستقبلهم في الآخرة عن اهتماماتهم في هذه الحياة، ويوجهون كل اهتماماتهم بشكلٍ منحصر على هذه الحياة، يورطون أنفسهم الورطة الكبيرة، ويخسرون مستقبلهم الأبدي المهم جدًا، في مقابل اهتمامات ورغبات منحصرة لفترةٍ وجيزة في هذه الحياة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، إيماننا الذي هو صلةٌ لنا بالله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، صلةٌ بهديه، بتعليماته، إيماننا الذي نبني عليه تصديقنا بوعد الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” ووعيده، إيماننا الذي هو ميثاقٌ بيننا وبين الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، على أساس الاستجابة له، والالتزام بأوامره ونواهيه، هذا الإيمان ينادينا الله به، يخاطبنا به، يذكرنا على أساسه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، اتقوا الله فلا تفرطوا تجاه مستقبلكم، الذي هو مستقبلٌ قريب في الواقع، مهما كانت نظرة الإنسان إليه وكأنه بعيدٌ جدًا، هو قريبٌ منك، الفاصل بينك وبينه هو الموت، والموت هو لحظة- بالنسبة لحسابات المستقبل الكبير الأبدي- لحظةٌ صغيرة، لحظة بسيطة، في يوم القيامة، في يوم البعث، هكذا يكون إحساس الإنسان: أن المدة التي أمضاها في حالة موته، لم تكن إلا وقتًا يسيرًا جدًا، وجزءًا بسيطًا جدًا من الوقت، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون: 112-113]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}[الروم: من الآية55]، تعتبر فترةً وجيزةً، تلك المرحلة التي هي فاصلٌ بينك وبين هذا الغد القريب الآتي.
ولهذا يأتي التعبير عنه في القرآن الكريم على هذا النحو: {مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}؛ لأنه مستقبلٌ قريبٌ ومهمٌ جدًا، مهما كنت مستبعِدًا له، وتراه بعيدًا، ولا تلتفت إليه، أنت المعني بأن تُعِدَّ لنفسك، وأن تقدم لنفسك، لِغَدك الآتي، لمستقبلك المهم، أن تقدم ما فيه نجاتك، وما فيه فوزك، وما فيه فلاحك، إذا لم تنظر فيما تقدمه: ما هو؟ وماذا سيترتب عليه؟ فربما قد يكون سعيك في هذه الحياة، أعمالك في هذه الحياة، والتي يتقرر فيها مصيرك في ذلك المستقبل: هي أنك تعد لنفسك العذاب، تعد لنفسك الشقاء، أنتَ بنفسكَ تعد لنفسك في مستقبلك في الآخرة العذاب والجزاء؛ لأنك تعمل أنت الأعمال التي تشقى بها، الأعمال التي تتعذب بها، الأعمال التي تخسر أنت بسببها رضوان الله، والجنة، والحياة السعيدة الأبدية، فتكون أنت من أهلكت نفسك بنفسك، ومن سببت لنفسك الخسارة، ومن فوَّت على نفسك النعيم العظيم، والمستقبل الأبدي السعيد.
{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}، لتستشعر أنت مسؤوليتك تجاه نفسك ولتحمل أنت الاهتمام تجاه نفسك، وتجاه مستقبلك، وما تقدمه، ما تعمله في هذه الحياة من أعمال، هي ذات أهمية كبيرة، فوق ما تتصور، فوق ما تتخيل محسوبٌ فيها مثقال الذرة من الخير، ومثقال الذرة من الشر، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزلزلة: 7-8]،
حسابات الإنسان في هذه الحياة يجب أن يأخذ فيها بعين الاعتبار هاتين الحياتين، فلو توجَّه- وهو كما قلنا حال الكثير من الناس- كل اهتمامه فقط نحو هذه الحياة، يريد أن يرتاح فيها، يريد أن يحقق طموحاته فيها، في رغباته المادية، في شهواته، في ملذاته، على حساب ذلك المستقبل المهم، المستقبل الأبدي في الآخرة، فالإنسان سيتورط وسيخسر، سيخسر النعيم العظيم الخالص، الحياة السعيدة الأبدية الراقية، مقابل أشياء تافهة، أشياء محدودة، ينالها هنا في الدنيا، ثم تفوته ويخسرها، ويحمل تبعاتها الخطيرة جدا، تبعاتها الرهيبة، تبعاتها التي تجعله يتحسر ويتندم، ولهذا يقول الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” في القرآن الكريم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء: 18-20].
اهتمام الإنسان بالآخرة، وسعيه لها، لا يعني أنه سيترك الاهتمام بشؤون حياته في هذه الدنيا، بل إن اهتماماته في هذه الحياة، وكذلك سعيه في هذه الحياة، سيكون في إطار اهتماماته بمستقبله في الآخرة، من خلال هذا الربط فهو سيهتم بشؤونه في هذه الحياة، لكن بما يفيده أيضًا، وبما هو محسوبٌ فيه مستقبله في الآخرة، وليس على حساب مستقبله في الآخرة.
أمَّا من يغفل عن مستقبله في الآخرة، فهو يتجه لهذه الحياة على حساب ذلك المستقبل، يعمل هنا أي شيء، في مقابل أن يحصل على ملذاته، على رغباته، على أهوائه: يعصي الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، يخدم الباطل، يرتكب الآثام، يقصر ويفرط تجاه ما أمره الله به، يتنصل عن مسؤولياته المهمة في هذه الحياة، التي هي جزءٌ من التزاماته الإيمانية والدينية، كل هذا من أجل أن تستقر له هذه الحياة على النحو الذي يرغب به، أو أن ينال فيها شيئاً من ملذاته ورغباته، وأهواء نفسه.
هذه النظرة القاصرة، النظرة المحدودة، لا يصل الإنسان من خلالها إلى بغُيته في هذه الحياة، قد يحصل على شيءٍ من ذلك، مع كثيرٍ من المُنغصات، وكثيرٍ من التعقيدات، ثم ينتهي ذلك ويفوت، هي حياة مؤقتة، حياةٌ محدودة، لو نال الانسان فيها ما نال، لو حصل له مما يرغب به ما حصل، لو وصل إلى شيءٍ ما من أهوائه ورغباته، فهو شيءٌ محدود، لوقت محدود، سرعان ما ينتهي، العاجلة عاجلة محدودة ومؤقتة ثم ينتهي كل شيء، لكن تبقى التبعات، تبقى الآثام، تبقى الأوزار، يبقى العذاب الأبدي في الاخرة والعياذ بالله، {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ}.
ما قيمة ما ستحصل عليه في هذه الحياة، من ملذاتها، أو رغباتها، أو أهوائها، أو شهواتها ومُتعها، إذا كان ما بعده هو جهنم؟! غمسةٌ واحدةٌ في نار جهنم تنسيك كل شيء، من مُتع هذه الحياة، من راحة هذه الحياة، من ملذات هذه الحياة، غمسةٌ واحدةٌ في نار جهنم، لحظةٌ واحدة في نار جهنم، ما بالك عندما يكون مصيرك ومستقبلك هو جهنم والعياذ بالله، {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}، يخسر الانسان كرامته، قيمته الإنسانية، يكون مستقبله في جهنم مستقبل العذاب والهوان، والخزي والمذمة، مطرودًا من رحمة الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، لا قيمة له، لا كرامة له، لا احترام له، لا قدر له، لا وزن له، خاسر، ومذموم، ومدحور، حتى هو تجاه نفسه، حتى مشاعره، مشاعره تجاه نفسه، ينظر إلى نفسه بأنه إنسانٌ خاسر، إنسانٌ تافه، إنسانٌ متورط، إنسانٌ لم ينصح لنفسه، لم يُحسن الاختيار لمستقبله ولمستقبل نفسه، يكون هو متحسرًا شديد الندم، وفي نفس الوقت ينظر إلى نفسه بمذمة، يلوم نفسة على الدوام، وهو في أشد حالةٍ من التحسر؛ لأنه ما قيمة أي شيءٍ حصل عليه في مقابل تلك الورطة الرهيبة، ذلك العذاب والشقاء الرهيب: جهنم والعياذ بالله، {يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}.
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ}، كانت اهتماماته وتوجهاته محسوبٌ فيها- بالدرجة الأولى- مستقبله المهم في الاخرة، الذي هو أبديٌّ، وما فيه هو في غاية الأهمية، لأن نعيمه هو على أعظم وأرقى مستوى وللأبد، والعذاب فيه على أشد ما يكون وللأبد، حسابات الانسان الناصح لنفسه، الذي أحسن الاختيار لنفسه، الذي اهتم بأمر نفسه وبمستقبل نفسه.
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، وسعينا للآخرة في هذه الحياة هو ضمن أنشطتنا واهتماماتنا في هذه الحياة نفسها، نحن نعمل في هذه الحياة ما هو مهم لنا في هذه الحياة نفسها، ومهمٌ لنا في مستقبلنا في الآخرة، ليست أعمالًا لا أثر لها، ولا أهمية لها أيضًا في هذه الحياة، كل الأعمال التي هي لمستقبلنا في الآخرة لها ثمرتها، وأهميتها، ونتيجتها الإيجابية هنا في عالم الدنيا، هي مما نحتاج إليه في هذه الحياة، ولكن في حسابات الانسان فيما يترتب على ذلك من نتائج، أو بحسب هوى النفس، ورغبات النفس، يكون الإنسان المؤمن، المتقي لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” ملتزمًا بتوجيهات الله “جلَّ شأنه”، مقتصرًا في إطار تعليمات الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، وفيها الخير الكافي للإنسان، فيها مصلحة الإنسان الحقيقية.
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ}؛ لأنه لابدَّ من أن يكون منطلقك أن يكون إيمانيًا، تنطلق من منطلقٍ إيماني، فيما تعمله، فيما تقدمه لمستقبلك في الآخرة، {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}، الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” يشكر لك سعيك، الذي هو في هذه الحياة شكر لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، لكنه بكرمه العظيم يجعل سعيك مشكورًا، ويكتب لك عليه الجزاء العظيم، والأجر العظيم، والفضل العظيم، الحياة السعيدة.
{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}، ليبين لنا أن اهتمام الإنسان بمستقبله في الاخرة لا يعني أنه قد أضاع نفسه في هذه الحياة، وحرم نفسه من كل شيءٍ في هذه الحياة، سيأتيه ما هو مقدرٌ له ومكتوبٌ له من الخير في هذه الحياة، وبشكلٍ لا يكون على حساب مستقبله في الآخرة.
{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ لأن أعظم تفريط، وأكبر خسران للإنسان: هو عندما لا يحسب حساب مستقبله في الآخرة، هذه خسارة رهيبة جدًا، وتفريطٌ عظيم، أنت لم تقِ نفسك من العذاب والشقاء الأبدي، والعذاب العظيم، العذاب في جهنم، العذاب في الآخرة، بدءًا من سوء الحساب، أمر رهيب جدًا!
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، فأعمالنا هي تقدمةٌ لمستقبلنا في الآخرة، فلننظر إلى أعمالنا بهذه الأهمية: أنها تقرر مصيرنا في مستقبلنا في الآخرة، وفي حساباتنا ننطلق من منطلق رقابة الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، الخبير بما نعمل، وبمستوى آثار ما نعمل، ما نعمله من أعمال، وآثار أعمالنا في الدنيا، ونتائجها وما يترتب عليها محسوبٌ أيضاً مع الأعمال، والله هو الخبير الذي يجازي على ذلك.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، الإنسان الذي ينطلق في ميدان هذه الحياة ناسياً لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، لا يحسب حساب الله، أن يتقي الله، أن يعلم أن الله رقيبٌ عليه، أن يعلم أن الخير له في أن يتقي الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، أن يطيع الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، أن يستجيب لله، أن يسمع لنداءات الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، أن يسمع لتحذير الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” له من حالة الغفلة، للإنذار الذي أنذرنا الله به في هذه الحياة، الذين نسوا الله فلم يحسبوا حسابه؛ نتيجة ذلك أنهم ينسون أنفسهم، {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}، فلا تهتم بنفسك في مستقبلك المهم، في مصيرك المحتوم والكبير، {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، هم الذين يخرجون عن ما رسمه الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” لعباده كطريقٍ للنجاة، كأعمالٍ هي لخيرهم، لمصلحتهم، لمنفعتهم في الدنيا والآخرة.
{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}، الإنسان عليه أن يدرك أنه متجهٌ حتماً إمَّا إلى الجنة، وإمَّا الى النار، وهذا سيتقرر بحسب أعماله، بحسب توجهاته، إن سار وفق هدي الله وتعليمات الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، أوصله ذلك إلى الجنة، وإلا فالنتيجة الحتمية إذا خرج عن ذلك: النتيجة الحتمية أن يكون مصيره المحتوم إلى النار والعياذ بالله.
هذه الحقيقة المهمة على الإنسان أن يُذَكِّر نفسه بها يومياً، يومياً، أنه متجهٌ إمَّا إلى الجنة، وإمَّا إلى النار، وأن هذا يرتبط بأعماله، بتصرفاته، بمواقفه، باهتماماته، فليدرك كيف يتعامل بمسؤولية، كيف يضبط تصرفاته على هذا الأساس، وهذه هي التقوى، ليقي نفسه من أن يكون اتجاهه ومصيره إلى جهنم والعياذ بالله.
في مستقبلنا في الآخرة- كما قلنا- الفاصل هو الموت، لابدَّ من الرحيل من هذه الحياة، ولابدَّ من مجيء تلك الحياة الآخرة، والرحيل من هذه الحياة يأتي بالموت، والموت حقيقة يعترف بها كل البشر، ولا يستطيع أحدٌ إنكارها، وهي بداية الرجوع إلى الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، ونهاية الفرصة للعمل في هذه الحياة.
ولهذا يقول الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” في القرآن الكريم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران: من الآية185]، كل نفس، لا يستطيع أيٌ منا، مهما كان: ملكًا، أو متمكناً، لديه القدرات، لديه الإمكانات، أو لديه في نفسه الخبرة، ويمتلك المعرفة، أو يمتلك أي إمكاناتٍ كانت، في أي واقعٍ كان، في أي مستوى كان، لا يستطيع أن يمتنع من الموت، الذي هو نهاية لهذه الحياة وبداية الرجوع الى الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، (كُلُّ نَفْسٍ) لا يمكنه أن يدفع عن نفسه تلك النهاية، ويحتفظ بوجوده في هذه الحياة ليستمر فيها، ويخلد فيها، فلماذا تتوجه كل الاهتمامات فقط إليها؟ لماذا تغفل عن مستقبلك الآتي حتمًا؟ لماذا لا تهتم بِغَدِك الآتي المهم، مستقبلك في الآخرة.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[آل عمران: من الآية185]، وهذه الحقيقة يعيشها البشر، أو تحدث في واقع البشر يومياً، في كل يوم والناس يودعون أعداداً كبيرةً منهم، المستشفيات في كل يومٍ يفارق فيها الحياة الكثير من الناس، المستشفيات في المدن فيها العظة وفيها العبرة، في واقع المجتمع تنقرض أجيال بعد أجيال، الكل راحلون، الكل منتقلون من هذه الحياة، لا بقاء فيها، لا خلود فيها، لا استمرار فيها، حياةٌ مؤقتة، حياةٌ إلى أجلٍ فقط (محدود، مسمى).
{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، يأتي الأجر الكامل، الأجر الوافي في مستقبلنا في الآخرة، فلماذا لا نحسب حسابها، ونعمل لها، والمسألة مهمة، ليس جزاءً عاديًا، ليس مستقبلًا بسيطًا، المسألة فيها (إمَّا الجنة، وإمَّا النار)، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران: من الآية185].
الموت هو بداية الرجوع الى الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، كما قال الله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[العنكبوت: الآية57]، وقال “جلَّ شأنه”: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}[الأنعام: 61-62]، لا يستطيع أحدٌ أن يمتنع عن تلك النهاية، ولا يستطيع أحدٌ أن يحميه، أو أن يدفع عنه تلك النهاية الحتمية، ولهذا يقول الله “جلَّ شأنه”: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}[الواقعة: 83-85].
قد يكون بجوار الإنسان وهو في لحظات حياته الأخيرة، يودع فيها هذا العالم، وهو على وشك الرحيل من هذه الحياة، قد يكون بجواره أقرباؤه، وأحباؤه، وأصدقاؤه، وأصحابه، والأطباء من حوله، الكل عاجزٌ عن أن يمنع عنه هذه النهاية، عن أن يبقيه لمدةٍ أخرى في هذه الحياة وقد أتى أجله، وهناك من هو حتى أقرب إليه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ}، حتى وأنتم بجواره، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}، لا يستطيع أحد أن يمتنع عن ذلك المصير المحتوم، {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
الشيء العجيب في واقع البشر أنهم لا يأخذون العبرة والعظة، وهم يرون ممن يعرفونهم وقد رحلوا عنهم، قد رحلوا من هذه الحياة، من أقربائهم، من أصدقائهم، ممن يعرفونهم، فلا يحسبون حساب أنفسهم هم، أنهم سيرحلون من هذه الحياة، فماذا قدموا؟ ماذا عملوا؟ كيف هي مسيرة حياتهم في هذه الآخرة؟ هل سيكون الامتداد لها في مستقبلهم في الآخرة السعادة والفوز؟ أو النتيجة لها الهلاك والخسران؟
الإنسان الذي يغفل عن هذه النهاية وما بعدها، وعن مستقبله في الآخرة، ستكون بداية هذه النهاية وهذا الرجوع مزعجاً له جدًا، وسيشعر بالخيبة، والخسران، والندم الشديد، والتحسر الكبير بعد فوات الأوان؛ لأن الموت هو نهاية الفرصة، نهاية الفرصة للعمل، ونهاية الفرصة لأن تقدم لنفسك العمل الذي فيه نجاتك، فيه فوزك، فيه فلاحك، أعمال جعل الله عليها الأجر العظيم، جعل لها النتائج الطيبة في هذه الحياة، والنتائج العظيمة في الآخرة، رغَّب فيها، وعد عليها بالجنة، وعد عليها بالأجر العظيم والفضل العظيم، فلم تبالِ بها، وكانت في متناولك، كانت يسيرةً عليك في هذه الحياة، في إطار طاقتك ووسعك ومقدرتك، ولكنك فرطت فيها، تشعر بالخسارة عندما ترى حياتك هذه انتهت، وترى أن الفرصة انتهت بشكلٍ نهائي، ولهذا يقول الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، يبين لنا تلك الحالة من التحسر في تلك الحالة الحرجة والحساسة والمهمة: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون: 99-100].
ليحذر الإنسان، وليفكر في مستقبله، ألَّا يكون من هذه النوعية، التي تستمر في ظروف هذه الحياة غافلةً تماماً، ومستهترة تجاه مستقبلها المهم في الآخرة، لا تلتفت إلى أعمالها، وعواقب هذه الأعمال، ونتائج هذه الأعمال، ثم يتفاجأ بالموت، حينها يستيقظ، يتنبه، كان يُذَكَّر، فلا يتذكر، كانت تأتيه الموعظة، فلو سمع الكلام من الأذن، خرج من الأذن الأخرى، لا يعطيه أي اهتمام، لا يبالي به، وكأنهم يتحدثون معه عن شيء خيالي، عن شيء لا حقيقة له، لا وجود له، لن يأتيه، لن يصل إليه، حينها ستكون المفاجأة كبيرة، يبهره الموت، الصدمة كبيرة، ولا مجال للخلاص، لا مجال للتلافي، فاتت الفرصة تماماً، يطلب من الله بتضرع، كم سيقول هذا الدعاء من أعماق قلبه: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}، لأتلافى ما قد مر، ما قد أضعت، ما قد فرطت فيه.
لكن مثلما قال الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}، كلمة عبَّر بها عن تحسره، عن ندمه، عن أسفه، عن خسرانه، فلا مجال لأن يُعطى مهلةً إضافية، لتدارك ما قد أضاعه من عمره، من أيام حياته، ما أهدره من أوقاته، ما عبث فيه من أعماله، التي لم يحسب فيها حساب المسؤولية بينه وبين الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، مانعٌ وحاجزٌ عن العودة الى الحياة، الى يوم البعث والحساب.
يقول الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” أيضاً مبيناً هذه الحالة لدى الكثير من الناس، ما أكثر من سيعيشون تلك الصدمة في آخر لحظات حياتهم: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، انفقوا؛ لأن هذا مكتوبٌ لكم، هو تقدمةٌ لكم، أنتم تكسبون به رضوان الله، جنته، الفوز، أنتم تقدمونه لكم في مستقبلكم في الآخرة، تحققون لأنفسكم به النتائج العظيمة، المكاسب الكبيرة، فيما أعده الله لكم من النعيم العظيم.
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}[المنافقون: من الآية10]، أول ما يأتيه الموت ينتبه، يدرك بقيمة تلك الأعمال كلها، أنها أعمال مهمة، أنها أعمال عظيمة، ومن الإنفاق: الإنفاق في سبيل الله، الإنفاق في سبل الخير، التي أرشد الله إليها وأمر بالإنفاق فيها، عندما يأتي الموت ماذا سيقول الإنسان؟
{فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}[المنافقون: من الآية10]، مهلة ولو بسيطة، {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}، ولو كان قليلًا، ولو فرصة زمنية بسيطة، {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون: من الآية10]، أتصدق من مالي، لأقدم لنفسي؛ لأنك ستفارق ذلك المال، ولا تستفيد منه فيما بعد ذلك، أو قد تكون تصرفت فيه بما تحملت به وزرًا عليك، {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}، هل ستعطى فرصةً إضافية، ولو لساعة ولو ليوم، ولو لوقتٍ بسيط؟ {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المنافقون: الآية11].
حتى التوبة، عندما تعيش في هذه الحياة مستهترًا تجاه ما تعمل، تعمل بحسب أهواء نفسك، بحسب شهوات نفسك، بحسب مزاج نفسك، تتصرف فتتجاوز في تصرفاتك وأعمالك حدود الله، تتجاوز أوامر الله ونواهيه، حينها عندما يأتيك الموت لا مجال للتوبة، إن لم تكن قد بادرت قبل ذلك إلى الله، رجعت إلى الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى” في وقتٍ مبكر، {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}[النساء: من الآية18]، (تُبْتُ الْآنَ)، رأى الموت، أصبح مدركًا ومتيقنًا بأنه في بداية الرجوع إلى الله، وبعد الموت الحساب والجزاء، يريد حينها أن يتوب، قد فاتت الفرصة، الله أمرك بالتوبة، دعاك إليها، حثك في القرآن الكريم كثيرًا على ذلك، فكنت أنت من تستهتر، من تصرّ على معصيتك، من تواصل تقصيرك، فحينها لا مجال للتوبة، ليست مقبولةٌ منك في تلك اللحظات الأخيرة من حياتك وقد حضرك الموت، إذا حضرك الموت، لم تعد حتى التوبة مقبولةٌ منك، أصبح ملفك ملفًا جاهزًا للحساب والجزاء، لا مجال لأي إضافةٍ فيه، لا إمكانية لتغيير شيءٍ تجاه مصيرك المحتوم؛ ولذلك نجد أهمية أن ننظر نحن فيما نقدم قبل ذلك، قبل أن تفوتنا الفرصة، قبل أن نضيِّع مستقبلنا بضياع حياتنا هنا، بإهمالنا، وتقصيرنا، وتفريطنا.
وهل الإنسان يعرف متى هي نهاية حياته في هذه الدنيا؟ هل هو على معرفةٍ ويقين بيوم رحيله من هذه الحياة؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان: من الآية34]، الإنسان لا يعرف متى هو موعد رحيله من هذه الحياة، ولذلك عندما يسوِّف، يقول: [سوف أصلح فيما بعد، سوف أهتم فيما بعد، سوف أتلافى تقصيري في مستقبل حياتي، في بقية حياتي في هذه الدنيا]، فهو يسوف ويغرّ نفسه، ويخدع نفسه؛ لأنه لا يعرف متى هو موعد رحيله من هذه الحياة.
ثم التسويف خطيرٌ على الإنسان، الإنسان- والعياذ بالله- قد يُخذل، قد لا يتوفق، بل قد يسلب التوفيق، فيعيش حالة الخسارة بشكلٍ رهيبٍ جدًا؛ أمَّا الإنسان المؤمن، الذي يُعِد ويستعد ويتقي الله، ويحسب حساب مستقبله في الآخرة، وينظر ما الذي يقدمه لمستقبله وغده في الآخرة، فهو حتى عندما يأتي رحيله من هذه الحياة، هو ذلك الذي يرجو الله، هو ذلك الذي تأتيه البشارات، هو ذلك الذي لم يتفاجأ بتلك اللحظة، كان يحسب حسابها، كان يستعد لها، كان مدركًا لأهميتها؛ فلذلك كان يعمل، كان يتوجه إلى الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، بتلك الأعمال التي يحثه الله عليها، يرغِّبه فيها، بل قد تكون نهاية حياته في هذه الحياة، قد تكون نهاية حياته هنا في الدنيا بطريق الشهادة في سبيل الله، وهو ذلك الذي رأى أن من أعظم الأعمال وزنًا عند الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، والأعمال الصالحة الكبيرة: هو الجهاد في سبيله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”، فيكون الموت بالنسبة له لحظةً عابرة ينتقل فيها إلى حياةٍ سعيدةٍ وهانئة، يقول الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالى”: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[آل عمران: الآية157]، تأتي البشارة، إن قُتِل في سبيل الله كان شهيداً، ينتقل الى حياةٍ هنيئةٍ سعيدة، كما قال الله “جلَّ شأنه”: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 169-171]، يكون حالهم كما هو حال مؤمن أهل القرية، الذي قال عندما: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}[يس: من الآية26]، عندما قيل له هذا النداء: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}[يس: 26-27].
فالإعداد لذلك المستقبل المهم، الذي بداية الرجوع فيه الى الله من حين الموت، والذي هو نهاية حتمية، وما بعده هو القيامة، هو الآخرة، هو البعث، هو الأمور الكبيرة، المهمة، العظيمة، هو ذلك المستقبل الكبير المهم جداً، نتحدث عن ذلك- إن شاء الله- في المحاضرة القادمة.