في أجواءِ الانقساماتِ الدينيةِ والصِّراعاتِ السياسيةِ، تنشأُ بيئةٌ خِصبةٌ للجَدَلِ الديني، إلَّا أن الجَدَلَ حولَ الدينِ على مواقع التواصل الاجتماعي في معظمِه جدلٌ شعبوى، يعتمدُ على الإثارة، فارغٌ من المضمون، وخالٍ من الرصانة، وَلا يمتلكُ الأدواتِ والمعارفَ اللازمةَ؛ لتحليل الخِطابِ الديني.
بعضُ هذا الجدل يعكسُ مخاوفَ أصحابِه من أن سيادةَ القانون الديني يعني حرمانَهم من حرية المتعة الشخصية والجسدية التي يتيحُها المجتمعُ الغربي، واعتبارها من لوازِمِ الحداثة والمدنية، ومشكلُ هؤلاء يتعلق بالحريات الأخلاقية أكثر من أي شيء آخر، ويتخذون من ازدراء الدين -بحجّـة التخلف- حيلةً لتبرير إشباع مُتَعِهم الجسدية، ويتسمُ خطابُ هؤلاء بالسفسطة، واختزال الحداثة في اللذة والترفيه، والربط غير العقلاني بين إزاحة الدين وَالتحديث، وكأَنَّ مُجَـرّدَ التخلُّص سينقلنا على بساط الريح الدين نحو فراديس المدنية الحديثة، وهي سفسطة ساقطةٌ لا علاقة لها بأصول التحديث والازدهار حتى في التجربة الغربية.
صحيحٌ هناك نخبةٌ مدنيةٌ لديها شكوكٌ حقيقيةٌ في تأثير سيادة القانون الديني والطوائف الدينية على الحريات والمشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وَوغيرها من القضايا الحقوقية الجدلية المتربطة بمفهوم الدولة القومية الحديثة.
وَنوعٌ آخر من الجدل من وحي الصراعات التاريخية للكنيسة الكاثوليكية، والتي كانت محور النقد التنويري، وشكلت لقرون عديدة أكثرَ أشكال المقاومة الروحانية والأصولية لسيرورات العلمنة والتحديث؛ فقد حاربت الرأسمالية والليبرالية والدول العلمانية الحديثة والاشتراكية، ومثّلت الشكلَ النموذجي للدين العام المناهض للحداثة… ومع ذلك فَـإنَّ الكنيسة أعادت تقييمَ موقفها وعدّلت سلوكَها للتكيُّف مع شرعية العصر الحديث. (الأديان العامة في العالم الحديث صـ 20)
هذا المسارُ المقاوِمُ للتحديث يرتبط على نحوٍ كبير بطبيعة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؛ فهي لم تكن مُجَـرّد فِرقة دينة، بل مؤسّسة سلطوية اقطاعية، وبمحاكم التفتيش والنظام الأقطاعي، وثنائية الولاء لله وللقيصر، وما تثيره من إشكالات تكاد تكون حصراً على المسيحية الكاثولوكية، كما يقول الفيلسوف برتراند رسل؛ ولذلك لا يمثّل قانونًا طبيعيًّا يحكُمُ حركةَ التحديث في كُـلّ العالم، ولا ينسحِبُ بالضرورةِ على بقية الأديان، وتختلفُ بحسب السياقات التاريخية من جهة، وبحسب مرونة وقدرة الخطاب الديني على استيعاب التطورات التي تحدث في الحياة، والقدرة على التكيف مع النتائج العملية للتحديث، أَو التي أثبت الواقع صدقها؛ فالواقعُ والطبيعة هي مصدرٌ للمعرفة واختبارِ صدق أية فكرة أَو نظرية؛ بما في اختبار سلامة وصدق ثبوت النص الديني، ومن القواعد الأصولية المعروفة أن النصَّ يعاد تأويلُه إذَا صادَمَ ظاهرُه الواقعَ أَو الخبرات المستمدة من التجارب التاريخية المتراكمة.
وبمناسبةِ شهرِ رمضانَ، سنتناول في عدد من المقالات، الموقفَ التاريخيَّ للدين من ظاهرة التحديث؛ باعتباره هدفًا وطنيًّا مرغوبًا لكل الشعوب، ونقصد هنا بالتحديثِ: ما يشملُ انتشارَ التصنيع، وتوسيع التجارة، والازدهار الاقتصادي، وارتفاع معدل دخل الفرد، وتوسع المدن، وانتشار التعليم، وحكم المؤسّسات، والمشاركة السياسية، وسيادة القانون العقلاني، وغيرها من العناصر والعمليات، التي تمثّل جوهرَ عملية التحديث، ولا يعني بالضرورة اكتساب الطابع الغربي، وإن كان الغربُ بحكم السبق وما له من قوة جذب وسيادة عالمية يفرِضُ نفسَه على كُـلِّ مناهج التفكير في العالم، ولا يمكنُ الحديثُ عن المدَنية الحديثة: من تصنيع وتقنية ومؤسّسات سياسية واقتصادية دون الإتيان على تجربة الغرب، لكن سنركِّزُ على التفريق بين ما هو كلي وعام في التحديث، وبين ما هو عرضي وخاص.
أما الدين فنعني به الدِّينَ كظاهرةٍ تاريخيةٍ واجتماعيةٍ، وَليس الدين كمحتوى عَقَدي أَو لاهوتي؛ بقصد إصدار أحكام نقدية أَو تقويمية للمنظومات العقدية والتحقّق من سلامتها وإخضاعها للفحص البرهاني والتي تشكل مادةَ المباحث الإلهية والمدونات الكلامية والفلسفية في كُـلّ العصور، والتي مثّلت محورَ اهتمام النقد التنوير في العصر الحديث، وهي لا تهمنا هنا؛ لأَنَّها أوَّلًا: تتعلق بالقناعات الفردية، وثانيًا: لأَنَّ الدارسات العملية الحديثة قد تجاوزت النقد التجريدي لفلاسفة التنوير، الذي اتسم بالثوريةِ والحماسة إلى دراسة الدين نظام اجتماعي ودور وظيفي وَتاريخي والصلات المعقدة بين الدين التحولات الحديثة.
إنَّ التحديثَ بالمعنى السابق هدفٌ مرغوبٌ تسعى له كُـلُّ شعوب العالم، بل إن الحداثةَ الغربيةَ وتوسُّعَ أُورُوبا الاستعماري خلقت معضلةً حادةً عند المسلمين؛ فإذا كان الإسلامُ هو الدينَ الحقَّ، فكيف يمكنُ تبريرُ هذا التفوق الغربي في الدنيا؟
لكن التحديثَ كهدفٍ وطني من شأنه أن يؤثِّرَ على عموم المجتمع وكل بناه السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، ويحتاجُ لمساندةِ المجتمع، وليس موقفًا يتعلَّقُ بقناعات الأفراد الشخصية؛ لذلك فَـإنَّ التصوُّرَ الذي ساد لدى بعض الجيل الأول من الحداثيين العربِ عن الدين كعائقٍ أمامَ حركةِ الشعوب والدول نحو المدنية الحديثة، وتحميل الدين مسؤوليةَ التخلُّف، هكذا بكل بساطة لا يلقى بين أيدينا إجَابَةً سحريةً للتخلف والنهوض تضلِّلنا عن الأسباب الحقيقية للتخلف والتحديث فقط، الأخطرُ من ذلك أنه يدفعُ الشعوبَ المتمسكةَ بدينها إلى تطويرِ موقفٍ سلبي من التحديث، ويضعُها أمامَ اختبار صعبٍ يقايضُ الشعوبَ بين رأس ماله الرمزي ورأس ماله المادي، دون ضرورة لذلك، وتطرف مدَني يولِّدُ تطرُّفًا دينيًّا نحن في غنًى عنه.
إن دراسةَ أصولِ التحديث من المواضيع التي تناولها بالدرس علماءُ وفلاسفةٌ من مختلف الحقول العملية، لا سيما علم الاجتماع، الذي نشأ بالأَسَاسِ في سياق دراسة أصول التحديث ودراسة التحولات الكبرى التي شهدتها أُورُوبا في العصر، والعوامل التي ساهمت فيها، وظروف تشكلها وتطورها، ومن ذلك العلاقة بين الدين والمؤسّسة الدينية والتحديث، ومن بين أشهر علماء الاجتماع، الذين تخصصوا في دراسة مساهمة الدين في المدنية الحديثة، العلامة ماكس فيبر، أحد أساطين علم الاجتماع في أُطروحته (روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية)، ثم توسع إلى دراسة الأديان الأُخرى والأديان الشرقية، بما فيها الإسلام.
وَمن منطلق الابتعاد عن الجَدَلِ الشعبوي والتصورات الانطباعية سنتخذُ من آراء هذا المفكِّرِ الكبير مدخلًا لدراسة أنماط الصلات المقعَّدة والمتعددة للدين بالتحولات الحديثة كما حدثت في التاريخ، وَإذَا كان ماكس فيبر قد حاول أن يدرُسَ حركةَ الإصلاح الديني، من خلال تتبع تاريخ تطور الرأسمالية الغربية كظاهرة منجزة، فَـإنَّنا في حال العرب والمسلمين للأسف لم ينجزوا حداثتَهم بعد؛ فَـإنَّ السؤال يتحول من: ماذا حدث؟ إلى لماذا لم يحدث؟ وعليه سنحاولُ -من خلال دراسة المحاولة الإصلاحية لمحمد على باشا (المؤسّس الحقيقي لما يسميه الأمير شكيب أرسلان النهضةَ الشرقيةَ العربية في القُطرَين المصري والشامي)- أن نعثُرَ فيها على ما يساعدُنا في إلقاء الضوء على أسباب تعثُّر محاولات التحديث الشرقية العربية