نستمر في الحديث عن أهمية التقوى، وما تعنيه لنا، وتحدثنا في المحاضرة السابقة عن ثمرة ونتيجة التقوى في عاجل الدنيا، في هذه الحياة، ونتحدث عن أهميتها بالنسبة لنا في مستقبلنا الأبدي، المهم، الكبير، العظيم، في الآخرة، تحدثنا عن أن الموت هو فاصلٌ، ما بين هذه الحياة والحياة الآخرة، ولكنه فاصلٌ يستشعر الإنسان عند البعث أنه كان قصيراً جداً، ويستشعر كم أن ذلك المستقبل، الذي كان يتصور أنه بعيد في هذه الحياة، ويستشعره بعيداً في هذه الدنيا، كم أنه قريب، ويدرك كم كان لأعماله، ولتصرفاته، ولمواقفه في هذه الحياة الأثر الكبير جداً في تقرير مصيره في مستقبله في الآخرة.
الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” يقول في القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس: الآية12]، حتى آثار عمل الإنسان تُحسَب مع العمل نفسه، في الخير، أو في الشر، وعمله بكله (في الخير، أو الشر) يحسب حتى مثقال الذرة منه،{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[الزلزلة: 7-8]، ولهذا فإن الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” تحدث في القرآن الكريم كثيراً عن اليوم الآخر، والحديث عنه في القرآن الكريم أخذ مساحةً واسعة؛ لينذرنا، وليحذرنا، ولينبهنا، حتى لا نكون في حالة غفلة، وحالة نسيان، تجاه ذلك اليوم المهم والكبير، يوم الحساب، يوم الجزاء، اليوم الفصل.
الإنسان إذا استشعر أنه سيُبعث، وأن البعث مسألة قريبة، هي كما لو استيقظت من نومك في الصباح، فوجدت نفسك في ذلك العالم، في ذلك المقام، مقام الحساب والسؤال والجزاء، الإنسان إذا كان يستشعر مستقبله في الآخرة، ويتذكر الآخرة، ويتذكر اليوم الآخر، ويحسب حساب نفسه في ذلك المستقبل، سيكون مهتمَّا، منتبهاً تجاه أعماله، ومواقفه، وأقواله، وتصرفاته، يحسب حساب أعماله، وهو يدرك أنه سيحاسب عليها، وسيجازى عليها، ولهذا يقول الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة: الآية281]، فلنحسب حساب ذلك اليوم، لنقي أنفسنا من هوله، لنقي أنفسنا من الهوان فيه، لنقي أنفسنا من الخسارة فيه؛ لأنه يومٌ عظيم، يومٌ لا يمكن للإنسان فيه أن يغير تلك الحقائق التي قد ترتبت على أساس أعماله في هذه الحياة، وتصرفاته في هذه الحياة.
حالة النسيان، والغفلة، والاغترار، حالةٌ خطيرة، النسيان ليوم القيامة، النسيان ليوم الحساب، الغفلة عنه، الاغترار بهذه الحياة، والغفلة التامة عن ذلك المستقبل، حالةٌ خطيرة، تدفع بالإنسان للاستهتار تجاه تصرفاته، وأعماله، ومواقفه، وأقواله، فلا يتنبَّه إلى ما يفعل، وإلى ما يقول، ولا يحسب حساب أنه سيجازى عليه، فيكون جريئاً على المعصية، على المخالفة لتوجيهات الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، على التصرف وفق أهوائه، وفق مزاجه الشخصي، وليس بمسؤوليةٍ وانتباهٍ واهتمام.
في القرآن الكريم، في عرضه لأحوال الناس يوم القيامة، في حديثه عن القيامة وأهوال يوم القيامة، وعن الحساب والجزاء، وعن الجنة والنار، عن ذلك المستقبل المهم، الذي لابدَّ لنا منه جميعاً، ليس بإمكان الإنسان أن يمتنع عن الحضور يوم القيامة، {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }[يس: 32]، لا يمكنك أن تمتنع عن الحضور، ولا أن تختفي في ذلك اليوم، أو أن تحاول أن تغيب عن ذلك المشهد، لا مجال. حديث القرآن الكريم واسعٌ عن ذلك اليوم، على مستوى سور بأكملها، تسمى بأسماء من أسماء يوم القيامة، وعلى مستوى آيات كثيرة وردت في سورٍ كثيرة.
من السور القرآنية التي تحدثت عن مشاهد يوم القيامة، وعرضت عرضاً مهمّاً وتفصيلياً عن أحوال الناس في يوم القيامة، وعن هوله، وعن الحساب، وعن الجزاء، وعن انتقال الناس، من ساحة القيامة، إلى مصيرهم المحتوم، حسب جزاء أعمالهم (في الجنة، أو في النار) هي: سورة الواقعة، سورة الواقعة من السور المهمة والمفيدة في القرآن الكريم، التي قدمت عرضاً تفصيلياً مؤثراً، ومهماً، ومنذراً لنا جميعاً، يقول الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم * إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ}[الواقعة: 1-3].
الواقعة: القيامة، التي لابدَّ من وقوعها، ووقوعها خطبٌ عظيم، حدثٌ كبير، وأمرٌ رهيب، يغير واقع البشر بشكلٍ تام، تتغير معه معالم الأرض بكلها، أحداث رهيبة جداً، ويتغير معه واقع الكون، واقع السماوات والأرض، وهذا أمرٌ حتميٌ لابدَّ منه، لا أحد يستطيع ليتدخل فيمنع وقوع يوم القيامة، أو يغير من هذه الحقيقة أبداً، مع التغيير لمعالم الحياة بكلها، لمعالم الأرض التي تُدمر بشكلٍ كليّ، ومعالم السماوات، والمتغيرات الكبرى، يتغير واقع البشر أنفسِهِم، والتغييرات بكلها هي مقدمة لذلك، هي تدل على طبيعة ذلك اليوم، على أحداثه المهمة، على المتغيرات الكبيرة فيه، أنه يومٌ عظيم، أنه يوم الفصل، أنه يومٌ مهم، لا مجال فيه للرشوة، لا مجال فيه للاحتيال، لا مجال فيه لمحاولة تغيير الحقيقة والتنكر للحقائق، كل مساعي الإنسان في ذلك فاشلة، لا تجديه شيئاً، ولا مجال فيه ولا جدوى، للتحسر، للندم، للبكاء، للتضرع، كل ذلك لا يجدي الإنسان شيئًا، الأمور فيه فصل، يبقى مصير الإنسان مرتبطاً بطبيعة أعماله، بحسبها.
من التغييرات المهمة في ذلك اليوم في واقع البشر، في أحوالهم، في أقدارهم، في ظروفهم، ما قال عنه في الآية المباركة: { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ}، من أهم ما في يوم القيامة هو هذا: تغيُّر أحوال الناس بشكلٍ تام،فالقيامة تخفض البعض من الناس، تخفض ناساً، ممن كانوا في هذه الدنيا من العاصين لله، من المستكبرين، من المتجبرين، وكانت أحوالهم في هذه الدنيا بحسب ما هم فيه من سلطة، أو جاه، أو مكانة اجتماعية، أو نفوذ وتأثير، كانوا في هذه الدنيا في حالة رِفعة، وفي حالة عناد، وفي حالة تكبر، وفي حالة طغيان، فيوم القيامة، يُحشرون، فتخفضهم، تخفضهم الواقعة، تخفضهم تلك الأهوال، يخفض الله حالهم في ذلك المقام الكبير، في مشهد القيامة، فيُحشرون، يقفون بين يدي الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” أذلّاء، خاضعين، خاشعين، خانعين، يقفون في حالة تحسرٍ وبكاءٍ وذلةٍ، كل أحوالهم في حالة ذلة تامة، ناكسوا رؤوسهم، خافضوا أصواتهم، خاشعةً أبصارهم، في حالةٍ من الذلة، والانكسار، والضعف، والضعة، والهوان، والبكاء، والندم، يلومون أنفسهم، يتحسرون تجاه ما ورّطوا به أنفسهم، حالتهم المعنوية هابطة، نفوسهم منكسرة، حالة رهيبة جدًا، ممن كانوا- كان بعضهم- في هذه الدنيا في مقام أمير، أو ملك، أو قائد، أو صاحب سلطة، أو صاحب وجاهة اجتماعية، أو نفوذ، فيدفعه ذلك للتكبر، والعناد، والاستهتار، والجرأة على معصية الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، والصد عن سبيل الله، والظلم لعباد الله، والتكبر على الناس، والأنفة من قبول الحق، والجرأة على مخالفة تعليمات الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، تتغير أحوالهم تمامًا، في الدنيا كانوا بذلك المستوى من الوجاهة، والنفوذ، والتأثير، والرفعة، لكنهم هناك في حالة الذلة والانكسار، والضعف، والعجز، وحالة الهوان، وحالة الخشوع، وحالة الانكسار، وحالة الندم، وحالة الضعة، لا قيمة لهم، لا أهمية لهم، لا كرامة لهم، لا تأثير لهم، ليس لهم وزن، ليس لهم أهمية، ليس لهم رِفعة، ليس لهم عزة، حالة من الانكسار والضعة التامة، تتغير تلك الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا، عندما يستذكرون ما كانوا عليه في الدنيا، يلومون أنفسهم، ويوبخونها.
رافعة للمؤمنين، البعض من المؤمنين ربما عاش- بعض المؤمنين- في هذه الدنيا مستضعفًا، محارَبًا، محتقَرًا من الكثير من أولئك الذين لديهم معايير في تقييم حال البشر، معايير مادية، الإنسان مهمٌ عندهم بقدر مكانته الاجتماعية، أو سلطته، أو تأثيره، أو ماله، أو نفوذه الاجتماعي، أو سلطته، فينظرون إلى ذلك المؤمن بنظرة الاحتقار، بنظرة الاستضعاف، حال المؤمن الذي كان في هذه الدنيا محارباً، مستضعفاً، وكان البعض ينظرون إليه بعين الاحتقار، يبعث يوم القيامة وهو في حالٍ مختلف، معززاً، مكرماً، راضياً عن نفسه، يحظى بالتكريم، يحظى بالطمأنينة، رافعاً رأسه، يشعر بالعزة، يشعر بالكرامة، يشعر بالمكانة العظيمة عند الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويحظى بالتكريم من مقام إلى مقام، ومن موقف إلى موقف، في مواقف القيامة، وصولاً إلى التكريم العظيم جداً في الجنة، ورفعة القدر، والشأن العظيم في الجنة، فالتكريم نفسه من أهم أنواع المكافأة للمؤمنين في الآخرة، إن الله يكرمهم، {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}[يس: 26-27]، يصبح حاله في مقام القيامة، أعظم من حال- حال المؤمن العادي، أعظم شأناً، أعلى قدراً- من حال أي إنسان كان في هذه الدنيا في أرفع مقام، إمَّا بحسب سلطته، أو نفوذه، أو تأثيره، ولكن مقامات الآخرة تختلف عن مقامات الدنيا، مقامات عظيمة، والشأن فيها شأنٌ مهم، شأنٌ كبير، وحالة ثابتة.
في الدنيا تتغير أحوال الناس، البعض يكون في رفعة، في مقام، في جاه، في سلطة، تتغير حاله؛ أمَّا أحوال يوم القيامة فهي لا تتغير بعد ذلك، بل إنما- كما قلنا- ينتقل إلى تكريمٍ أعظم، وإلى شأنٍ أعظم.
هذه الأحوال للناس في يوم القيامة، هي مرتبطة بأعمالهم، بتصرفاتهم، بمواقفهم، بأقوالهم، في هذه الحياة؛ لأن البعض من الناس يطلب الرفعة بأي ثمن في هذه الدنيا، ويراها في تلك المقامات المرتبطة بسلطة، أو جاه، أو مال، أو نحو ذلك، فقد يرتبط بأولئك الذين يرى فيهم أنهم أهل رفعة، ولو وقف في صف الباطل، ولو عمل الأعمال السيئة، ولو توسل إلى ذلك بالوسائل غير المشروعة، بالأعمال السيئة، فيصد عن سبيل الله، فيقف في صف الباطل، فيحارب الحق، ويتبنى المواقف السيئة، ويوالي اعداء الله، إلى غير ذلك، البعض أيضاً حتى لو لم يكن من ذوي الرفعة، بحسب الجاه والسلطة، أو المال، أو المكانة الاجتماعية، أو النفوذ، لكنه في نفسيته مستكبر، معاند، يرى نفسه رفيعة؛ فيحارب الحق، يعاند الحق، يأنف من الحق، مستكبر في أن يتقبل الحق، وفي أن يسير في طريق الحق، بل يرتاح إلى ما هو فيه من العناد، من المحاربة للحق، من عدم الاستجابة لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، يشعر في نفسه بالرفعة تجاه ذلك، فيرى نفسه يوم القيامة ذليلاً، خانعاً، خاضعاً، خاشعاً، لا قيمة له، بل في حالة من الذلة والهوان، يتحسر ويبكي، يشعر بالضعف، والعجز، والانكسار التام، ولا يفيده ذلك شيئاً.
في القرآن الكريم عن أحوالهم- في تلك الأحوال- في مقامات القيامة، يقول الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”:{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}[ القلم: من الآية43]، ربما كانوا في الدنيا في أحوالهم التي يشعرون فيها بالرفعة، والنفوذ، والمقام، والمكانة الكبيرة، في شدتهم، وفي جُرأتهم على مخالفة الحق، على مخالفة دين الله، وتعليماته، ممن يفتحون أعينهم بشدة، يرفعون أصواتهم بشدة، يغلظون في القول، يسيئون، يتكبرون، يُترجمون حالة تكبرهم، في تصرفاتهم، في أعمالهم، في مواقفهم، لكنهم آنذاك في حالة من الذلة التامة، إلى هذه الدرجة: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة}، تغطيهم الذلة بشكلٍ كامل، حالتهم بكلها، وهيئتهم تعبر عن حالة الذلة التي هم فيها، {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ}[السجدة: من الآية12]، لم يعودوا في حالة من التعالي، فيرفع رأسه، هو في حالة ذلةٍ رهيبةٍ جدًا، وفي الآية الأخرى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}[ إبراهيم: من الآية43 ]، مادِّي أعناقهم، في حالةٍ من التذلل والخضوع، حالة رهيبة جدًا، هم فيها، تغيرت أحوالهم بشكلٍ تام، وهذا يترافق معه، ويلحق به بقية الأمور: ما سيصيرون إليه من العذاب، والنكال في جهنم والعياذ بالله، والخزي العظيم، والعذاب المهين.
أمَّا حالة المؤمنين، فيلحق بذلك ويترافق معه ما يحظون به، من النعيم، والتكريم، ويجتمع لهم مع التكريم المعنوي: النعيم المادي، والسعادة الأبدية.
{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا}[الواقعة: 4-6]، تأتي واقعة القيامة، التي لابدَّ من وقوعها، تأتي مع هذه الأحداث الهائلة جداً، التي في مقدمتها التدمير الكلي للأرض، زلزالٌ عظيم يدمر الأرض بكلها، نحن نشاهد مشاهد الدمار الهائل لزلزال في مستوى محدود، لبقعة من بقاع الأرض، مثل ما حصل، الزلزال الذي حصل مؤخراً في تركيا، وأجزاء من سوريا، كيف كان هوله ودماره، وكيف كانت آثاره! آية من آيات الله، تذكرنا بالزلزال العظيم، الذي يدمر الأرض بكلها، بكل أرجائها، ويغير معالمها، لشدة ذلك الزلزال، ليس فقط ينهي المدن، ينهي كل مظاهر العمران على الأرض، من مدن، وقرى، ومساكن، ومبانٍ، وغير ذلك، بل إنه يدمر حتى الجبال بكلها، كل ما في الأرض من الجبال تتدمر بشكلٍ تام، وإلى حدٍ عجيب.
{وَبـُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}، تُفتت، تُفتت بشكلٍ نهائي، لا يبقى فيها صخور، ولا يبقى فيها شيءٌ من صلابتها، إلى الدرجة التي قال عنها: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا}، تتحول إلى ذرات من الغبار، تلك الذرات من الغبار، التي لقلَّتها، لضآلتها، لصغرها، إنما نراها في الضوء الذي ينفذ (أو يدخل) من النافذة؛ لأنه ضوءٌ مركز، فنشاهد فيه ذرات الغبار تلك، هكذا يصل حال الجبال، الجبال التي كانت راسيةً على الأرض، والتي كانت ثقيلةً وكبيرةً، إلى درجة أنه كان لها دورها الأساس في أن تكون الأرض مستقرةً بالحياة للبشر، فلا تكون مضطربةً وفي حالة مَيَدَان واضطراب، تلك الجبال الراسية، الجبال الشامخة، الجبال الكبيرة جداً، المنتشرة على مختلف بقاع الدنيا تندكّ بكلها، لعظمة وشدة ذلك الزلزال الرهيب الهائل، حتى تتفتت، وتتحول إلى غبار، ثم إلى ذرات من الغبار الصغيرة.
هذا الهول الرهيب تأتي معه تلك المتغيرات الكبيرة في واقع البشر، عندما يبعثهم الله من جديد، ويحشرهم في ساحة القيامة بكلهم، بعد أن يصيروا في ساحة القيامة، وتأتي عملية الحساب والجزاء، التي تحدث عن تفاصيلها في آياتٍ كثيرة، وفي سورٍ متعددة، يتحول واقع البشر في تصنيفهم إلى ما قال عنه في هذه الآية المباركة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً}[الواقعة: 7]، كنتم أنتم أيها المجتمع البشري، أيها الناس، تصنفون إلى ثلاثة أصناف، حالة من الفرز، يبنى عليها مصيرهم، مصيرهم الذي سينتقلون إليه من ساحة الحساب، إلى حالة الجزاء، {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً}، أصنافاً ثلاثة، والكل سائرون في هذا الاتجاه، وأعمالك الآن في هذه الحياة، ومواقفك، وأقوالك، وأفعالك: هي التي تحدد من أي صنفٍ ستكون، فانتبه وأنت لا زلت هنا، {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة: 7-11].
الصنف الأول في هذا التقسيم هم: {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ }: أصحاب اليُمن، والخير، والبركة، والسعادة، الذين كانوا في هذه الدنيا مستجيبين لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، مطيعين له، ملتزمين بتوجيهاته، متبعين لهديه آثروا هدى الله وتعليمات الله على أهواء أنفسهم، استجابوا لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، فكان مصيرهم في الآخرة هو هذا المصير العظيم: أن يكونوا في يوم القيامة ممن يؤتَون كتبهم بأيمانهم، من أصحاب اليُمن، الخير، البركة، السعادة، فيكونون في حالة سعادةٍ ونعيم، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}، تعظيمٌ لشأنهم، ولما هم فيه من التكريم، وما هم فيه من النعيم، وما هم فيه من السعادة العظيمة، وكيف لا يسعد الإنسان، عندما يرى أنه قد فاز، وأنه قد ربح مستقبله الأبدي الدائم، الذي لا نهاية له، وأنه سينتقل إلى الجنة، وقد حظي برضوان الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، ليفوز بتلك السعادة الكبيرة، بتلك الحياة الطيبة، بما في الجنة من النعيم العظيم، والحياة الطيبة.
{وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}: أصحاب الشُؤم والشقاء، الذين تنكروا في هذه الدنيا لهدى الله، كانوا جريئين على معصية الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، والتجاوز لحدوده، ومخالفة هديه، فهم في يوم القيامة أصحاب شؤمٍ وشقاءٍ وعذابٍ وحسرةٍ، {مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}، تهويلٌ لفظيع حالهم، وهو حال فظيع جدًا جدًا، ليس حالاً عادياً! ليس هناك في يوم القيامة أحوال عادية، مثلما في هذه الحياة، قد يعيش الإنسان وضعاً عادياً في مراحل معينة من حياته، هناك إمَّا شقاءٌ وشؤمٌ وعذابٌ عظيم، وإمَّا سعادةٌ ويُمنٌ وفوزٌ عظيم، ليس هناك أحوال عادية، كلها أحوال كبيرة، أحوال مهمة.
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }: هؤلاء هم أعظم حالاً وأرفع شأناً من أصحاب اليمين، من أصحاب الميمنة، هم أرفع شأناً منهم.
فضيلة السبق هي فضيلةٌ عظيمةٌ جداً،السبق إلى طاعة الله، السبق في الاستجابة لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، السبق في الأعمال العظيمة المهمة التي يوجه الله إليها، يرشد الله إليها، يحثنا عليها، ويرغبنا فيها، ويأمرنا بها، السبق: المبادرة إلى الأعمال الصالحة، المبادرة إلى الأعمال العظيمة، التي تُرضي الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، الأعمال المهمة، الكبيرة.
وفضيلة السبق التي وردت هنا، وورد ما يرتبط بها من النعيم، هذا كله للحث لنا، للترغيب لنا في ذلك؛ لأن السبق يشكل ضمانةً لنجاة الإنسان، وفلاح الإنسان، والتكريم فيه عظيم، والفضل فيه كبير، وهي روحية إيمانية عالية، يحملها الانسان المؤمن، وهناك ترغيب كبير في القرآن الكريم على السبق، وعلى حمل روحية السبق، أن يكون الإنسان مبادراً، وألَّا يكون متثاقلاً، ولا متأخراً، كما هو حال البعض من الناس، عند أي عملٍ عظيمٍ مهمٍ من الأعمال الصالحة العظيمة، التي بها النجاة، بها الفوز، تكسب رضوان الله، فإذا به يحاول أن يكون الأخير، يحاول أن يتثاقل، يحاول أن يتباطأ، بل البعض تتحول عنده إلى طبيعة، إلى طريقة في التعامل مع الأعمال العظيمة، الإنفاق في سبيل الله، يقول: [اتركني الأخير، ابدأ من الآخرين]، الانطلاقة في سبيل الله، ينتظر حتى لا يكون هو من المبادرين والسابقين، إمَّا ينظر كيف ستكون الأمور والأحوال، أو غير ذلك.
علامة التثاقل والتباطؤ: هي علامة تدل على نقص في وعي الإنسان، في إيمانه، وضعف في الدافع الإيماني لديه، وهي حالة قد تمثل خطورةً على الإنسان، قد تكبر في واقع الأنسان وتؤثر عليه؛ فتفوِّت عليه أعمالاً عظيمةً مهمة، ولو لم يكن إلا أن يفوت عليه فضل السبق، فضل السبق في الأعمال، أو قد يتراجع عن الكثير من الأمور إلى حد أن يخلّ، ويقصر، ويفرط في أعمال أساسية في دين الله “سُبْحَانَهُ وتَعَالَى”، يترتب عليها الفوز، والنجاة، والفلاح.
فالسبق فضيلةٌ عظيمة، ولهذا يقول الله:{والسَابِقُونَ السَابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَبُون فيِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[الواقعة:10-12]، السابقون شأنهم عظيمٌ عند الله، منزلتهم رفيعةٌ عند الله، يحظون بالقرب من الله، بما يعنيه ذلك من منزلتهم الرفيعة، والتكريم الكبير، الذي يحظون به في يوم القيامة وفي الجنة، منزلة رفيعة يطمح إليها الإنسان المؤمن؛ لأن في مقدمة النعيم هو التكريم، الإنسان لو كان لديه على المستوى المادي ما كان، فهو يطمح من وراء ذلك بالتكريم، أن يكون له مكانة عالية، أن يكون له منزلة رفيعة.
بل إن البعض من التجار في هذه الدنيا، قد يحاول أن يقدِّم الأموال الكثيرة؛ ليكون له منزلة رفيعة عند مسؤول معين، أو أمير معين، أو رئيس معين، أو ملك، أو شخصية هنا أو هناك، يريد أن يحظى بأن يكون له مكانة عنده، وأن يعرف بأن له منزلة عنده، ومكانة محترمة لديه، فيفتخر بذلك، ويشعر بالعزة نتيجةً لذلك، فكيف إذا كانت تلك المكانة، التي يحظى بها الإنسان المؤمن السبَّاق مكانةً عند اللّه، منزلةً رفيعةً عند الله “سُبْحَانَهُ وتَعَالَى”، هو المقام العظيم، التكريم الكبير، المنزلة الرفيعة، الدرجة العالية، التي يطمح إليها الإنسان المؤمن، فيحظى بالتكريم الكبير، مع النعيم المادي، {فيِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.
الجنات في عالم الجنة: بساتين، ومزارع عجيبة جداً، في عالم الجنة الشاسع الواسع، الكبير جداً، وفيها كل أنواع النعم التي ينعم بها الإنسان، في تلك الجنة، في ذلك العالم، وعلى أرقى مستوى، أنواع النعم التي يتنعم بها الإنسان ويهنأ بها، فيجتمع له مع التكريم المعنوي العظيم النعم المادية الكثيرة جدًا، والمتوفرة في ذلك العالم، الذي قال عنه رسول الله “صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” وهو يتحدث عن الجنة: ((فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأت، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطرَ عَلَى قَلبِ بَشَر))، وفي القرآن التفاصيل الكثيرة عن ذلك النعيم، الذي ينعم به الإنسان، تلك النعم الواسعة، التي يهنأ بها من دون أي منغصات، من دون أي منغصات، تفاصيل كثيرة، وسيأتي البعض منها.
{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ}[الواقعة: الآية13]: جماعة كبيرة، فازوا بالسبق، وبفضيلة السبق، {مِنَ الْأَوَّلِينَ}: من الأمم السابقة، {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة: الآية14]: وقليلٌ من الزمن المتأخر؛ لأن الكثير من الناس يتهربون من السبق، مؤثرات كثيرة في واقع الحياة تؤثر على الكثير من الناس، ينتظر، يحسب الحسابات، وكيف سيكون الوضع، وماذا سيكون حال الآخرين؟ فيفوت عليهم هذا الفضل العظيم.