نص المحاضرة الرمضانية العاشرة (الشيطان وطبيعة الصراع معه) – السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 1444 هـ -2023 م
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
في حديثنا بالأمس، في محاضرة الأمس، عن عدونا الشيطان الرجيم، وطبيعة الصراع معه، تحدثنا عن أن الدور الذي يقوم به الشيطان بهدف التأثير على الإنسان، هو يأتي كعاملٍ إضافيٍ إلى هوى النفس، الذي هو المؤثر الأول، في توجه الإنسان، وفي نفسية الإنسان، ولذلك فلا صحة لتصوّر البعض: أنه بسبب الشيطان فقط كان هناك من البشر من يَضلّون، وينحرفون، ويُفسدون، ويكفرون، وأنه لولا الشيطان لكان كل البشر مؤمنين، وصالحين، ومتقين، وأزكياء.
في واقع الحال، حتى لو لم يكن هناك شيطانٌ من الجن، فالإنسان بطاقاته، وقدراته، وقابليته، لديه القابلية في الاتجاه في طريق الخير، أو الاتجاه في طريق الشر، ولربما كان الكثير من الناس سيتجهون في الاتجاه السيء، حتى لو لم يكن هناك شيطان من الجن، ولكان هناك من شياطين الإنس من يقوم بالدور بشكلٍ تام، بدلًا عن الشيطان (إبليس)، والشياطين من الجن.
في نفس الوقت، من المهم- بالنسبة لنا- أن نعرف أن الشيطان (إبليس الرجيم) والشياطين من الجن لا يعلمون الغيب، فهم لا يعلمون عن الإنسان ما توسوس به نفسه، ويعلمون عنه ما هو يتعلق بمستقبله من المغيبات؛ وإنما هم يعرفون بالمؤثرات التي تؤثر في الإنسان عادةً، وهذا شيءٌ معروفٌ في واقع البشر بشكلٍ عام، أي إنسان يعرف- بشكلٍ عام- ما هي المؤثرات التي تؤثر على الإنسان:
-
من جهة الرغبات.
-
من جهة الشهوات.
-
من جهة المخاوف.
-
من جهة الغضب والانفعال.
وكذلك ما يعرفونه من ظاهر حال الإنسان، فيما يعيشه الإنسان من مشاكل وظروف، واهتمامات عملية وواقع عملي، يتضح من خلال ذلك أشياء كثيرة عن الإنسان: فيما يتعلق برغباته، فيما يتعلق بشهواته، فيما يتعلق بطموحاته، فيما يتعلق بمخاوفه، فيما يتعلق بمشاكله، فيما يتعلق بانفعالاته، إلى غير ذلك، ثم هم يتحركون بناءً على ذلك، يعني: قد يوسوسون للإنسان من جهة الرغبات المعروفة عنه، فإذا تفاعل أكثر، نشطوا معه أكثر، وسعوا إلى الوصول به إلى أن يتورط، فيقع في المعصية والعياذ بالله، ثم في ظروف الحياة وواقع الحياة يلحظون من خلال ما يعرفونه في واقع الشخص الذي يستهدفونه- يستهدفونه للإضلال له، والإغواء له- ما هو ثغرةٌ عليه، فيركزون على ذلك، فهم يحاولون أن يتحركوا من هذه المداخل.
-
عقدة الشيطان على الإنسان، وحقده على الإنسان شديدٌ جدًا، وكبيرٌ جدًا:
ولذلك هو يتحرك باهتمام وجد، ويستغل فرصته، إذا تهيأت له فرصة على أي إنسان، يستغلها إلى أقصى حد، ومن المهم الوعي بذلك، والانتباه تجاه ذلك، فلديه اندفاع كبير، هو يعمل بجد واهتمام كبير.
الشيطان يعتبر الإنسان سببًا في خسارته الكبيرة، وخسارة الشيطان هي خسارة رهيبة جدًا، خسارته على المستوى المعنوي لمقامه الذي كان قد وصل إليه، فمع أن أصله من الجن، إلَّا أنه كان قد ارتقى إلى صف الملائكة، واستوطن السماء، وسكن فيها، فيما يدل عليه ذلك من مقامٍ معنويٍ كبير، وأصبح في صف الملائكة يتعبد معهم، وبقي على ذلك الحال لآلاف السنين.
لكنّ أصل مشكلته من نفسه، لم تزكُ نفسه بذلك، بل استعظم نفسه، وَكَبُرت عنده نفسه، فأصبح عنده خللٌ كبيرٌ جدًا، كُشِفَ ذلك الخلل من خلال الاختبار الذي حصل للملائكة، عندما أتت مسألة الاستخلاف للإنسان في الأرض، وأتى الأمر بالسجود لآدم، فكان ذلك الاختبار العملي كاشفًا لما انطوت عليه سريرته من الخلل الكبير، عُقدة الكبر، والاستعظام للنفس، التي أفسد بها نفسه.
فعندما عصى أمر الله– وهي تقريبًا أول معصية عُصي الله بها معصيته- وخالف توجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لُعِن، وطُرِد، وذُمّ، وخسر كل ذلك المقام الذي كان قد وصل إليه، إلى صف الملائكة، وطُرِد من السماء، التي كان يعني استيطانه لها تعبيرًا عن مقامه الذي وصل إليه، كان يدل على ذلك المقام العالي، الذي قد وصل إليه، بحيث أمكنه أن يسكن السماء، ويستوطنها، وأن يكون في صف الملائكة، ويتعبد معهم، وطُرِد بشكلٍ مُذلٍ ومُخزٍ ومُهين، وهو يستحق ذلك؛ بسبب عصيانه لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتكبره على الله.
ولذلك في طرده من السماء، قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}[الأعراف: من الآية13]، مع طموحه، وما وصل إليه من مقام، ثم تكبره، طُرِد كصاغر، بالصغار، حقير، فقد كل قيمته المعنوية، ومكانته المعنوية، وتحول لا قيمة له، لا وزن له، بل أصبح صاغرًا مذؤومًا مدحورًا، كما قال الله له: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}[الأعراف: من الآية18]، مذموم: يُذَمّ، ومدحورًا: مطرودًا، مطرودًا لسوئه، لشره، لعصيانه، لمخالفته، لما هو عليه من السوء، {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا}[الحجر: من الآية34]، يعني: من السماء، {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[الحجر: من الآية34]، تُرجَم وتُطرَد وتُدحرَ، ليس من الممكن له أن يعود إلى السماء، إذا حاول أن يعود إليها يُرجم بالشهب ويُطرد، ممنوع، {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[الحجر: من الآية35]، نعوذ بالله
الحالة التي وصل إليها: لعنه الله: يعني طرده وأبعده من رحمته نهائيًا، وهي حالة خطيرة جدًا، معناه: خسر كل شيء، خسر إيمانه، وخسر علاقته بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، سُلِب التوفيق، ابتعد عن الرحمة الإلهية في كل مظاهرها، في كل ما يتعلق بها في التدبير الإلهي لشؤون الخلق، تدبير الله لشؤونه- وهو من خلق الله، وفي إطار سلطان الله- بعيدًا عن الرحمة، في إطار الغضب عليه، واللعن له، فلا يحظى بأي رحمةٍ من الله أبدًا، في أي تدبيرٍ، في أي شأنٍ من شؤونه، وأصبح بعيدًا عن الخير، بعيدًا عن الرحمة، بعيدًا عن الفلاح، أصبح مصيره إلى الهلاك، إلى العذاب، إلى الخزي، خزي منذ بداية انحرافه، وهي عبرة كبيرة في واقعه، فأُخرِجَ مذمومًا، مدحورًا، ملعونًا، وأصبح رمزًا للشر، رمزًا للكفر، رمزًا للفجور، رمزًا للعصيان، وأصبح رجسًا خبيثًا، خَبُثَت نفسه، وضل، أصبح ضالًا، وعلى رأس المضلين والعياذ بالله.
ولذلك فهو اتجه بحقدٍ شديد على الإنسان، على آدم وذريته بكلهم، وبكل أجيالهم، إلى آخر إنسان، ومع ذلك أيضًا خَبُثَت نفسه، هو خَبُث وفسد، فسدت نفسه تمامًا، وضل، وتغيّر حاله تمامًا، من المقام الذي كان فيه، في إطار العبادة، بين أوساط الملائكة، في السماء، فسدت نفسه بشكلٍ تام، وَخَبُثَت نفسه نهائيًا، وأصبح الشر فيه متمكنًا منه بشكلٍ تام، أصبح كائنًا شريرًا، خبيثًا، فاسدًا، سيئًا، لم يعد فيه شيءٌ من الخير، ولا شيءٌ من الصلاح، ولو بنسبة ضئيلة، أصبح كل توجهه ومنطلقه من خلال ما هو عليه من السوء، والفساد، والضلال، والشر، فهو يتجه في كل مؤامراته، في كل أعماله، في كل تصرفاته، يتجه من خلال ما هو عليه من سوء، وكفر، ورجس، وخُبث، ودناءة، وحقد، وكفر، والعياذ بالله، تغيُّر شامل في واقعه، فهو يحرص على أن يوقع بالناس في الفساد، في الكفر، في الضلال، يحرص على أن يصدهم عن صراط الله المستقيم، أن يثبطهم عن الاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أصبح متباينًا مع الخير، مع الصلاح، مع الفلاح، مع طريق الخير، مع الزكاء، مع القيم الفاضلة، مع الإيمان، أصبح متباينًا بشكلٍ تام مع كل ذلك، ولربما أيضًا عنصره الناري- وهو خلُق من النار؛ لأن الجن هم كائنات مخلوقةٌ من نار السموم، من الحرارة- ولربما عنصره الناري مساعدٌ على استعار حقده إذا حقد، يعني: تكون حالة الحقد عنده أكثر، ولكن لن يكون ذلك هو العامل الأساس؛ إنما إذا زاغ، مثلما هو حال الإنسان، إذا زاغ وفسد، كانت طاقته تتجه به في حالة الانحراف، كطاقة معينة تتجه به في حالة الانحراف، بسبب فساده أصلًا؛ إنما هي عامل وظفها في اتجاهه السيء.
بكل ما هو فيه من حقد، وبكل ما تحول إليه من خُبث، وفساد، وكفر، وشر، وحقد، أعلن حربه على آدم وذريته، على الإنسان، على البشر، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}[الإسراء: من الآية62]، وهو يقصد آدم، يُخاطب الله بهذا الكلام، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}؛ لأنه اعتبر تكريم الله لآدم “عَلَيهِ السَّلَامُ” وكأنه تكريمٌ عليه، وحَطٌّ لمكانته، وهذه حالة تكبُّر بالنسبة له، الملائكة- بكلهم- سجدوا لآدم، {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}، وهو تكبر وطغى، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء: الآية62]، يعني: لأسيطرن عليهم ولأقودهم وأتجه بهم نحو الهلاك، حالة حقد شديد جدًا أعلن بها الحرب على المجتمع البشري بكله، وطلب المهلة؛ من أجل أن يوظف كل ذلك العمر الطويل- الذي طلبه- في حربه على المجتمع البشري، الله كشف له عن أنه من المنظرين، وهو أتجه على أساس أن يوظف كل ذلك العمر الطويل في الانتقام من البشر، بدافع عقدة الحقد والكبر، بعد أن وصل الحضيض، من المقام المعنوي الكبير، إلى الحضيض، ولا مجال للمصالحة معه، في حقده وحربه على المجتمع البشري، لا يمكن عقد اتفاقات هدنة معه، [أن توقف عنَّا، واتركنا، وهدنة لمرحلة معينة، أو صلح]، لا مجال لذلك، هو في حرب مستمرة ضد الإنسان، لكن الذي يمكن: هو المنعة من تأثيره، التحصّن من اختراقه، الحماية من تأثيره السيء، هذا هو الذي ممكن إلى حدٍ كبير، وسيأتي الحديث عن هذه النقطة، فلا مجال إلا للمباينة معه، أو أن يتحول الإنسان إلى خاضعٍ لتأثيره، ومستجيب له والعياذ بالله.
طبيعة حربه على الإنسان تحددت من أول يوم، من يوم إعلانه لحربه على الإنسان، {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: الآية16]، يعني: سأعمل على صدهم عن صراطك، عن الطريق الذي رسمته لهم، وفيه خيرهم، وفلاحهم، ونجاتهم، وفوزهم، الطريق الذي يصل بهم إلى الجنة، إلى رضوانك، الطريق الذي إذا ساروا فيه، تتحقق لهم الكرامة، والعزة، والسمو الإنساني، الطريق الذي تبقى لهم فيه كرامتهم الإنسانية، {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، سأسعى لصدِّهم عنه، لتثبيطهم عنه، لتخذيلهم عنه، لصرفهم عنه، {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: الآية17].
-
الشيطان يتحرك في إطار هدفين في مواجهته للإنسان:
-
الهدف الأول: سلب الإنسان من كرامته الإنسانية، من قيمته الإنسانية، وتجريده مما حظي به من التكريم الإلهي، وتحويله إلى إنسان مذموم، ملعون، سيء، فاسد، كحاله هو، مثلما حصل للشيطان نفسه، وخاسر.
-
والهدف الثاني: هو الاتجاه به ليخسر ويشقى، وليُلحق به أقصى الضرر، وأشد الضرر، ليصل به إلى نار جهنم، فيتعذب معه في نار جهنم.
هو يحمل هذا الحقد على الإنسان؛ ولذلك حتى حزبه، يتجه بهم، وهم الذين استجابوا له، وهم الذين وصلوا إلى الانقياد له، لا يرعى لهم ذلك الجميل؛ وإنما يسعى للوصول بهم إلى أن يحترقوا معه، ويتعذبوا معه أشد العذاب في نار جهنم، ثم سيسخر منهم، ويهزأ بهم، ويتبرأ منهم، ويشمت بهم، فهذا هو اتجاهه في تعامله مع الإنسان.
وهو يعتمد على أسلوب الإضلال، كما قال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ}[النساء: من الآية119]، الإضلال والإغواء، كذلك يستخدم أسلوب الإغواء للإنسان، أسلوب المخادعة للإنسان، والتزيين، والغرور، والأماني، يزين للإنسان الأشياء القبيحة، فيحاول أن يقنع الإنسان بأنها أشياء جيدة ورائعة وجذابة، يحاول أن يقدم له فهمًا خاطئًا عن الأمور؛ حتى يرى الحق باطلًا، والباطل حقًا، وينجذب للأشياء السيئة، من واقع نظرة خاطئة تجاهها، حالة الإغواء مثلما قال في قسمه، أقسم بعزة الله، هو يدرك أن ذلك قسمٌ مهم، ولذلك {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: الآية82]، لم يستثنِ إلا مَن؟ {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص: الآية83]، قال: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: من الآية39]، قال أيضًا: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}[النساء: من الآية119]، فهو يستخدم أسلوب الإضلال للإنسان، وتصوير الأمور تصوير خاطئ للإنسان؛ لجذبه إلى ما فيه ضلال، إلى ما فيه فساد، إلى ما فيه غواية، إلى ما فيه شر، ويستخدم أسلوب الإغواء والتزيين.
-
هو يأتي للإنسان من كل الثغرات، التي يجد من خلالها فرصةً للتأثير عليه:
قوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ}[الأعراف: من الآية17]، هذا يعني: أنه سيبحث عن أي ثغرة، وعن أي نقطة ضعف تؤثر على الإنسان، بحسب اختلاف الناس، فيما يؤثر عليهم، تختلف حالة البشر، فيما هو مؤثرٌ على نفسياتهم، بحسب ميولهم، بحسب رغباتهم، بحسب ظروف حياتهم، بحسب واقعهم، بحسب طموحاتهم وأهدافهم، بحسب توجهاتهم، فهو يبحث في واقع الإنسان عن ما هي نقطة الضعف، والثغرة التي ينفذ من خلالها للتأثير عليه:
-
إمَّا من خـلال الرغبـــــات:
الرغبات والشهوات عنوانٌ واسع ومؤثرٌ في حياة الإنسان، وعلى المستوى المعنوي، وعلى المستوى المادي، وعلى مستوى مختلف الرغبات لدى الإنسان:
-
البعض مثلًا رغباتهم المعنوية: يحب الشهرة، يحب الجاه، يحب المنصب، يحب المكانة العالية، أو يحب السلطة، فهو سيسعى إلى التأثير عليه من خلال هذه النقطة، يرى فيها نقطة ضعف، ويرى فيها فرصةً للتأثير عليه، وكم هم الناس في هذه الحياة، الذين ضلوا، أو ظلموا، أو فسدوا، أو انصرفوا عن نهج الله وعن طريق الحق، بسبب هذه الرغبة:
-
الرغبة في السلطة.
-
أو الرغبة في المنصب.
-
أو الرغبة في الجاه والمكانة!
-
كم هي أنواع المعاصي التي تدخل تحت هذه الرغبة، وتأتي تحت هذه الرغبة؟
-
-
الرياء.
-
الظلم.
-
التعدي.
-
الفساد.
-
أشياء كثيرة جدًا، تدخل- من التفاصيل، التي هي تفاصيل- في التصرفات والممارسات؛ بهدف تحقيق هذا الهدف لدى الكثير من الناس.
-
الأطماع، والأهواء، والرغبات المادية: كم يدخل تحتها من التصرفات والممارسات، التي هي سيئة، تُعتبر من المعاصي: من ظلم، من طمع، من سرقة، من نهب، من تعدٍّ، من وسائل وأساليب كثيرة جدًا، من معاملات في الحرام، من ربا، من كسبٍ للحرام، من نهبٍ للإرث، التصرفات كثيرة، وتفاصيل كثيرة تأتي تحت الرغبات والشهوات المادية.
-
الرغبة الجنسية: كم يستغلها الشيطان على الكثير من الناس، في الدفع بهم نحو الحرام، والممارسات الحرام، وإبعادهم عن الحلال.
وهكذا جانب الرغبات والشهوات (المادية والمعنوية) كم يشتغل عليها، وينفذ من خلالها، إذا وجد لدى الإنسان اتجاهًا نحوها، واتِّباعًا لهوى نفسه فيها، فيتحرك من خلال ذلك.
-
المخـــــاوف أيضًا:
الشيطان يركز على المخاوف لدى الإنسان:
-
الخوف من الموت.
-
الخوف من الفقر.
-
الخوف في الاتجاهات المعنوية: من فقدان المنصب، الخوف على المقام (مقام معنوي، أو منصب معين).
أنواع المخاوف التي تؤثر على نفسية الكثير من الناس، يحاول أن ينفذ من خلالها، وكم تحصل أيضًا من الممارسات، وكم يصرف الإنسان عنه من أعمال مهمة وأعمال عظيمة، هي طاعةٌ لله، هي استجابةٌ لأمره، هي خيرٌ للإنسان، فلاحٌ للإنسان، عزةٌ للإنسان، كرامةٌ للإنسان.
ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}[البقرة: من الآية268]، هذه حالة تخويف، حالة تخويف:
-
يصد الإنسان من خلاله عن الإنفاق، عن العطاء.
-
يدفع بالإنسان نحو اكتساب الحرام، نحو الخيانة، نحو السرقة، نحو النهب، نحو الفساد، نحو أشياء كثيرة تحصل.
{وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ}[البقرة: من الآية268].
يقول أيضًا: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران: الآية175]، التخويف الذي يسعى من خلاله:
-
إلى إركاع الناس للطاغوت، للظالمين، للمجرمين، للأعداء.
-
إلى صد الناس عن القيام بمسؤولياتهم المهمة: من الجهاد في سبيل الله، من التحرك في سبيل الله، من إقامة القسط، من الأمر بالمعروف، من النهي عن المنكر، المسؤوليات التي بها عزتهم، وقوتهم، ومنعتهم، وحمايتهم، والدفاع عنهم من شر الأشرار. يستخدم حالة التخويف.
في قصة آدم “عَلَيهِ السَّلَامُ”، حاول أن يستخدم في أسلوب الإغواء لآدم: حالة الترغيب، وحالة المخاوف؛ ولهذا عندما حاول أن يزين له أكل الشجرة، التي نهاه عن أكلها: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}[طه: من الآية120]، هو يعرف أن الإنسان بغريزته، يحب البقاء، يحب الحياة، يحب الخلود في الحياة، وينفر من الموت، وينفر من الفناء، فأتى ليشتغل على هذه الرغبة، مع أنه لا يحقق للإنسان رغباته بشكلٍ صحيح، الرغبات الحقيقية، هو يضيّع الإنسان، يضله، يغويه، الشجرة ليست شجرة خلد، وليس هناك شجرة إذا أكلها الإنسان يحيا ولا يموت، ولا يفنى، ليس هناك شيء (نبات) على وجه الأرض له هذه الخاصية، أو في أي مكان، {وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}، يعني: ملك يتجدد، ملك للأبد، وليست حياةً نكدة، بل مع ملك، في المقام المعنوي، والإمكانات المادية، التي تكون مع المُلك، {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف: من الآية20]، فحاول أن يشتغل على قصة الرغبات، وعلى قصة المخاوف؛ بهدف التأثير.
-
من المؤثرات، التي ينفذ من خلالها في التأثير على الكثير من الناس: هي حالة الغضب والانفعال:
مثلما حالة الشهوات والرغبات، وحالة المخاوف، حالة الغضب والانفعال.
البعض من الناس– والبعض انفعالي أكثر- هو يغضب بشدة، غضبًا وانفعالًا شديدًا، فالشيطان يَنْزَغُ، يَنْزَغُ بين البشر في حالة الغضب والانفعال. يَنْزَغُ: يستهدف الإنسان بالنزغ، يعني: بمحاولة إثارة الشر فيه، والتهييج لحالة الانفعال، إلى درجة تدفع بالإنسان إلى اتخاذ موقفٍ خاطئ.
ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأعراف: الآية200]، يجب أن يكون لدى الإنسان فهم مسبق، وقناعة، قناعة مسبقة، بأن الشيطان يحاول أن يستغل حالة الغضب والانفعال لديه، هذه أول نقطة؛ لأن البعض من الناس لا يتفهم حتى هذه النقطة، لا يتفهم، يبرر لنفسه حالة الانفلات عنده أثناء الغضب والانفعال، ولا يريد أن يتفهم هذه النقطة: أن الشيطان يستغلها، ويؤجج حالة الغضب والانفعال في الإنسان، ويهيجها، ويسعى لاستعارها؛ حتى تصل بالإنسان إلى الخروج عن حالة الانضباط والالتزام والتقوى، وتدفعه لتبني مواقف خاطئة، أو تصرفات خاطئة، أو قرارات خاطئة:
-
إمَّا فيما يقدم عليه من أفعال وتصرفات، فيها ظلم، أو سوء، أو تعدٍّ، ويتحمل بسببها الإثم.
-
أو فيما يتركه من الأعمال الصالحة، من الأعمال العظيمة، من الأعمال المقربة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
ليعصي أمر الله، أو يخالف فيما نهى الله، في أحد الأمرين: إمَّا يدفعه غضبه إلى مخالفة أوامر الله، أو التجاوز تجاه ما نهى الله عنه.
فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يحذر من هذه الحالة: حالة النزغ الشيطاني، في حالة الغضب، في حالة الانفعال، ويوجه إلى الاستعاذة بالله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، التجئ إلى الله، ليُعيذك ويُجيرك من تأثير الشيطان عليك في تلك الحالة، وحاول أن تخرج من حالة تأجج الانفعال والغضب الذي يؤثر عليك.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضًا عن هذه الحالة: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء: الآية53]، يعني: أن الشيطان يركز على هذه المسألة؛ ولذلك يحاول أن يستغل ما يقوله الناس، من الكلام الجارح، أو الكلام المستفز؛ ليُثير الشر فيما بينهم، ليؤجج حالة الغضب والانفعال فيما بينهم، ويدفع بهم- بالتالي- إلى المواقف السيئة:
-
يُثير بينهم العداوة، والبغضاء، والكراهية.
-
يعقِّدهم على بعضهم البعض.
-
يزرع في قلوبهم الكُره الشديد لبعضهم البعض.
-
يصل بهم- في كثير من الحالات- إلى الشر فيما بينهم.
كم هي الحوادث التي تحدث نتيجةً لحالة الغضب والانفعال: من القتل، من الجرح، من الكلام المسيء الذي فيه إثمٌ كبير، من المعاملة السيئة، من الظلم، من التعدي؛ نتيجةً لحالة الغضب والانفعال؟ هي مما ينتج عنها جرائم يومية في واقع البشر:
-
جرائم قتل بشكلٍ يومي.
-
جرائم اعتداء- لو لم يصل إلى درجة القتل- بشكلٍ يومي.
-
جرائم أيضًا في الإساءات في الكلام، إلى درجة يتحمل الإنسان فيها الوزر والإثم والذنب بينه وبين الله.
كم يحصل للكثير من الناس بشكلٍ يومي، في العداء، والأحقاد، والبغضاء، والكراهية، التي لا مبرر لها، لا داعي لها، فيما لا يستحق من الإنسان- أصلًا- أن يفعل ذلك الشيء، أو أن يصل به الحال مع ذلك الشخص، أو ذلك الشخص، أو الآخرين، إلى أن يكون بينه وبينهم عداء، وكراهية، وبغض، وشدة؛ نتيجةً لذلك.
ولذلك يقول الله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: من الآية53]، لأن الالتزام في الكلام، بالقول التي هي أحسن، العبارة التي هي أحسن، وتجنُّب العبارات السيئة، والجارحة، والمستفزة، والمهينة، التي يستغلها الشيطان لإثارة الشر، وتأجيج حالة الانفعال والغضب، هذا مهمٌ جدًا في تفادي الكثير من الإشكالات، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء: من الآية53]، فهو يستغل هذه المسألة استغلالًا كبيرًا.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}[فصلت: من الآية34]:
-
سواءً في الكلام.
-
سواءً في المعاملة.
-
سواءً في طريقة الإنسان في تعاطيه مع الأمور.
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: الآية34]؛ لأن الإنسان إذا قابل السيئة بالسيئة، فتح أبواب الشر بكلها، وتأججت المشكلة بشكل أكبر، وكثيرٌ من الأمور لا تستحق ذلك، لا تستحق ذلك، لا تستحق من الإنسان أن يفتح فيها بابًا للخصومة، ولا بابًا للنزاع، ولا بابًا للشجار، ولا بابًا للعداء، ولا بابًا للكراهية، يشغل نفسه، ويشغل ذهنه، ويشغل قلبه، يشغل تفكيره، ويشغل نفسه، يبني على ذلك تصرفات خاطئة نتيجةً لذلك، فالدفع بالحسنة هي الطريقة الصحيحة.
{ِادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، إذا كان لا يزال إنسانًا بمشاعره الإنسانية، سليم الفطرة، فالدفع بالتي هي أحسن سيؤثر فيه، سيؤثر فيه أثرًا بالغًا، إذا كان صاحب ضمير، له ضمير، له إحساس إنساني، يحتفظ بمشاعره الإنسانية، إذا كان كريم النفس، ليس لئيمًا، فهو يؤثر فيه الدفع بالتي هي أحسن تأثيرًا عميقًا، ولهذا قال: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا}[فصلت: من الآية35]؛ لأن هذا يحتاج إلى صبر وتحمُّل، مقابلة ودفع السيئة بالحسنة يحتاج إلى صبر وإلى تحمُّل، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت: من الآية 35]؛ لأن هذا مقام رفيع عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والأجر عليه عظيم، ونتائجه في الواقع نتائج كبيرة.
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}[فصلت: من الآية36] ، في نفس سياق الآيات، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت: من الآية36] ؛ لأن الذي يؤثر على الإنسان، وقد يُبعده- أصلًا- عن دفع السيئة بالتي هي أحسن: هو النزغ من الشيطان، يؤجج فيه حالة الغضب والانفعال؛ حتى تستعر نار الحقد فيه، فتؤثر عليه، يدخل في ذلك:
-
الأوهام.
-
سوء الظن.
-
الحسابات الخاطئة.
-
الاستفزاز.