إدراك شهر رمضان من جديد يعتبر فرصة ثمينةً ومهمةً ومتجددةً للإنسان، شهر رمضان المبارك بما فيه من بركات، وبما فيه من أجواء، تساعد الإنسان للانتفاع بهدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” والتذكُّر، والخروج من حالة الغفلة، والانتباه إلى نفسه، إلى واقعه، إلى أعماله، يعتبر فرصةً عظيمةً للإنسان؛ لأنه يتهيأ فيه للإنسان من إصلاح نفسه، وتزكية نفسه، والسعي للرجوع إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” بالتوبة والإنابة، وكذلك الارتقاء في واقعه الإيماني، والأخلاقي، والنفسي، ما لا يتهيأ في غيره، بالبركات التي جعلها الله فيه، وبما يهيئه الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” للإنسان، من أثر الصيام، والقيام، والأعمال الصالحة، وبالعطاء الذي من الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لذلك على الإنسان أن يدرك أهمية هذه الفرصة، وقيمة هذه الفرصة؛ حتى لا يهدر أيام شهر رمضان، ولياليه المباركة، من دون استفادةٍ منها واغتنامٍ لها.
الإنسان في هذه الحياة تطرأ عليه الكثير من المتغيرات، وهو في مسيرة الحياة من عامٍ إلى عام متغيرات في نفسه، وفي عمره، الصغير يكبر ويتحول إلى شاب، ويبدأ في مسيرة حياته على نحوٍ مختلف عمَّا كان عليه في طفولته، يتزوج، يصبح له عائلة، يتحمل مسؤوليات جديدة في هذه الحياة، يدخل في متغيرات كثيرة في واقعه النفسي وفي ظروف حياته، الشاب يتجه نحو الكهولة، ويخرج من مرحلة الشباب، بما كان فيها من طاقة، وقدرة، وقوة، وصحة، وبما كان فيها من نشاط، بما كان يمتلك فيها من طاقات، تتغير أحواله ويتجه نحو الكهولة، كذلك ما بعد الكهولة يخرج الإنسان إلى مرحلة الشيخوخة والهرم.
فالإنسان في مسيرته في هذه الحياة تطرأ عليه هذه التغيرات، على مستوى النفس، وعلى مستوى العمر، هذا إن استمر في مرحلة العمر إلى مرحلة الشباب، ثم إلى مرحلة الكهولة، ثم إلى مرحلة الشيخوخة، وإلَّا فالكثير من الناس يرحل من هذه الحياة ما قبل ذلك، الكثير من الناس يرحلون وهم في مقتبل العمر، البعض وهم في حالة الشباب، البعض في بداية الكهولة، كم من الناس يرحلون أفواجاً.
أيضاً فيما يتعلق بواقع الإنسان وأحواله، من اليسر والعسر، والصحة والمرض، تطرأ عليه الكثير من المتغيرات، والكثير من الناس قد ينتقل من حالة الصحة والنشاط والعافية، إلى المعاناة من أمراض مزمنة، تستمر معه في بقية حياته، ويصبح معانياً منها، من آثارها، من أضرارها، معاناة بأشكال متنوعة، بحسب نوعية تلك الأمراض والأعراض. أحوال الناس من فقرٍ وغنى تحصل فيها الكثير من المتغيرات، أحوال الناس من أمنٍ وخوف، تحصل فيها الكثير من المتغيرات.
وهكذا تطرأ على الإنسان الكثير في نفسه، في أحواله، في ظروف حياته، ثم في الواقع من حوله، الواقع من حول الإنسان كم تطرأ فيه من متغيرات كبيرة، ومتنوعة، ومتعددة، لها تأثيرها على الإنسان بشكلٍ أو بآخر.
لكن مهما كانت هذه المتغيرات، هي تأتي في إطار رحلة الإنسان ومسيرة حياته، والإنسان في مسيرة حياته وفي هذه الرحلة، بما يطرأ فيها من متغيرات، هو يسير إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، مصيره الحتمي إلى الله “جلَّ شأنه”، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}، هكذا يقول الله في القرآن الكريم، الإنسان يرى أنه لا يبقى في وضعية واحدة، ولا في حالة واحدة، بل يرى نفسه فعلاً في رحلة هذه الحياة ومسيرة هذه الحياة يتجه إلى هذا المنتهى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}[العلق: من الآية8]، إلى الله المنتهى، وإليه الرجعى، والمصير إليه “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، كما قال في القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}[ق: الآية43]، الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي أحياك، هو الذي وهبنا هذه الحياة، في مسيرة هذه الحياة هو “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” الذي يمنحنا ما يمنحنا، ويربينا، وينتقل بنا في أعمارنا، في أحوالنا، من الطفولة، وهكذا إلى الشباب، وثم وصولاً إلى نهاية هذه الرحلة في هذه الدنيا، للانتقال إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإلى عالم الآخرة.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ}: الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي يحيينا وهو الذي يميتنا، {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}: مصير الجميع إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، مصير كل إنسان، مصير كل هذه المخلوقات، يقول “جلَّ شأنه”:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}[آل عمران: من الآية28]، يقول “جلَّ شأنه”: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر: الآية3]، يقول “جلَّ شأنه”: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}[فاطر: من الآية18].
فمصير كُلٌّ منَّا إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومسيرة حياته هي تتجه به إلى هذا المصير، والرحلة التي هي في هذه الحياة، يتنقل فيها الإنسان من حالٍ إلى حال، ومن مرحلةٍ إلى مرحلة، هي تتجه به إلى هذا المصير: إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”.
ولذلك فإن الإنسان مهما كان معانداً، وعاصياً، ومغروراً، وغافلاً، ومبتعداً عن نهج الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ أو كان مهملاً، وغافلاً، ومقصراً، ومتجاهلاً، ولا يلتفت بجديَّة إلى مستقبله المهم، إلى مصيره المهم، هذا لن يعفيه أبداً من هذا المصير، هو يتجه رغماً عنه إلى هذا المصير: إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، مهما استحكمت به الغفلة، ومهما وصل به العناد والغرور، فحتمية الرجوع إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” لا مناص منها؛ ولذلك عندما قال “جلَّ شأنه”: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}؛ ليذكِّرنا بهذه الحقيقة.
يقول “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}[يونس: من الآية4]، هل أحد يستطيع أن يستثني نفسه عن هذا المصير، عن هذا المرجع إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”؟ هل هناك في هذه الدنيا أحدٌ من الناس، مهما كانت قدرته، مهما كانت إمكانياته، مهما كان موقعه، مهما كان يمتلك من وسائل الحماية لنفسه، هل يستطيع أن يستثني نفسه من هذا المرجع إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، الكل، الجميع مرجعهم إلى الله، مصيرهم إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وجهتهم التي يتجهون إليها هي هذه الوجهة: إلى الله “جلَّ شأنه”: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[يونس: الآية4]، فالمرجع الحتمي للإنسان في مسيرته من هذه الحياة إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، والمنتهى إليه، والمصير إليه؛ ليحاسب، ويجازي، ويثيب، ويعاقب؛ ولذلك فعلى الإنسان أن يدرك أنه لا مناص أبداً من هذا الرجوع إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، ورجوع للحساب، للجزاء على الأعمال، كما قال “جلَّ شأنه”: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[المائدة: من الآية105].
فالإنسان معنيٌ، إذا كان يريد الخير لنفسه، إذا كان يريد السلامة لنفسه، إذا كان يريد النجاة لنفسه، أن يتذكر مسؤوليته أمام الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” تجاه أعماله، وأن الله رقيبٌ عليه، وأنه سيحاسبه ويجازيه، هذا التذكر للرجوع إلى الله، والاستشعار للرجوع إلى الله؛ لأن الإنسان لا يعرف بالتحديد متى سينتقل من هذه الحياة، متى هو موعد رحيله من هذه الحياة، في هذه الرحلة الحتمية إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، في هذا المصير والمرجع إلى الله “جلَّ شأنه”، لا يعرف متى، فإذا كان يستشعر قرب لقاء الله “جلَّ شأنه”، ويتوقع هذا اللقاء، يتوقعه قريباً، هذا له أثره المهم على نفسية الإنسان، على إدراك أهمية ما يعمل، على الانتباه لما يعمل، على الحرص على أن يعمل الأعمال التي فيها نجاته، وفلاحه، وفوزه، وسلامته من عذاب الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ولهذا يقول الله “جلَّ شأنه”: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ أَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
فالاستشعار للرجوع إلى الله، والقرب للقاء الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، والتذكر لحتمية الرجوع والمصير إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، له أهميته الكبيرة على الإنسان؛ فيدرك قيمة مثل هذه الفرص، مثل شهر رمضان، عندما يكون في هذه الفرصة، بما فتح الله فيها للإنسان من آفاق واسعة، وهيَّأ له أيضاً من الفرص العظيمة، التي يرتقي فيها على مستوى تربية نفسه، وتزكية نفسه، وعلى مستوى أن يحظى برصيدٍ عظيمٍ من العمل الصالح، وعلى مستوى التوبة، والرجوع، والإنابة إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”.
من أهم ما ينبغي أن نركِّز عليه في شهر رمضان هو: الإقبال على هدى الله، وأن نفتح قلوبنا لهدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، من واقع الشعور بالحاجة إلى هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن هدى الله في ما فيه من مضامين، في ما فيه من تذكير، إذا أقبلنا عليه، وفتحنا قلوبنا له، وأصغينا له، وشعرنا بحاجتنا إليه، فيه ما يفيدنا، فيه ما هو كما قال الله عنه: {شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}[يونس: من الآية57]، في هدى الله ما يشفي صدورنا، ما يعالج الكثير من الترسبات السلبية المؤثرة علينا، فيه ما تلين له القلوب، مع الإقبال، مع الرجوع، مع الاهتمام، فيه أيضاً ما يرسم لنا في مسيرة حياتنا الأعمال الصالحة، ويرشدنا إلى الصراط المستقيم، الذي يصل بنا إلى الغايات العظيمة في هذه الرحلة نحو الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”.
الإنسان في ظروف حياته قد يغفل، الغفلة حالة تحصل للإنسان، وينسى، ولكن إذا كان ممن يتفاعل مع التذكير، وينتفع بالتذكير، كما هو حال الإنسان المؤمن؛ فهو يخرج من حالة الغفلة، وإن غفل؛ فهي حالة عارضة بالنسبة له، لا تستحكم إلى درجة السيطرة التامة عليه، والاستمرار في حالة التيه الدائم؛ ولذلك يقول الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات: الآية55]، المؤمن ينتفع بالتذكير؛ للخروج من حالة الغفلة، للانتباه إلى ما لديه من تقصير، وكذلك لما عليه أن يعمل، لما يرشده الله إليه من الأعمال العظيمة والمهمة، التي فيها فلاحه، وفوزه، ونجاته، وصلاح حياته، ولها أهميتها بالنسبة إليه في الآخرة، ويستفيد أيضاً في الارتقاء الإيماني؛ ليرتقي في إيمانه أكثر وأكثر، وإلَّا فإذا كان الإنسان لا يتنبه، وبقيت علاقته بهدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” علاقة روتينية اعتيادية، أصبح مسألة روتينية اعتيادية، فهي حالة خطيرة على الإنسان، لم يعد ينتفع بما سمع من الهدى، وما ذكِّر به من الهدى، من آيات الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”.
ولهذا يحذِّر الله “جلَّ شأنه” من هذه الحالة، حينما قال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}[الحديد: من الآية16]، {أَلَمْ يَأْنِ}: إلى متى سيبقى الإنسان في حالة غفلة، في حالةٍ يتعامل فيها مع هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” تعاملاً روتينياً اعتيادياً، من دون تأثر، من دون انتفاع، من دون تفاعل، تفاعل بقلبه ومشاعره، يكون أثره في واقعه العملي، في اهتماماته العملية، {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد: من الآية16].
في مقدِّمة ما يحرص الإنسان عليه من بداية شهر رمضان، هو: إصلاح علاقته مع هدى الله؛ ليكون ممن يتذكَّر، وينتفع، ويُقبِل بإصغاء على هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويسعى للانتفاع بهدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن هذا- كما قلنا- هو شأن المؤمنين، كما بيَّن الله في القرآن الكريم، المؤمن ينتفع بالذكرى، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات: الآية55]، تترك الذكرى أثرها على نفسه، على وجدانه، على مشاعره؛ لأنه بإيمانه قريبٌ من الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، علاقته إيجابية مع هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، مع القرآن الكريم؛ ولذلك ينتفع، ويستفيد.
يقول الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}[الأعلى: 9-13]، الحالة خطيرة على الإنسان، إذا أصبح في واقعه لم يعد يتفاعل مع هدى الله، لم يعد يتأثر بهدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، بل يصل الحال بالبعض إلى درجة أن ينفر من سماع هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، أن يفقد الرغبة لسماع الهدى بشكلٍ تام؛ ولذلك قد يصل به الحال إلى أن يمتنع عن أن يسمع هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويوبِّخ الله من يصلون إلى مثل هذه الحالة في قوله “جلَّ شأنه”:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر: 49-51]، حالة خطيرة على الإنسان، الإنسان إذا وصل إلى هذه الحالة، معناه: أنه لم يعد يخشى الله، مات الإيمان في قلبه، ماتت الخشية من قلبه، أصبحت حالته الإيمانية تجاه الآخرة، تجاه وعد الله ووعيده، حالة ضعيفة جداً، أو حالة منتهية، تلاشت من قلبه، فالموضوع خطير.
ولذلك ينبغي على الإنسان أن يحرص هو على تهيئة نفسه ومشاعره، لتلقي هدى الله تعالى، والانتفاع به، الانتفاع بالتذكير في إصلاح ما لديه من خلل، في الانتباه لما هناك من أعمال ذات أهمية كبيرة، وأن يحذر من أن يصل إلى حالة الإعراض عن الهدى، التي تبدأ بعلاقة باردة مع هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، تتلاشى فيها حالة التفاعل، حالة الإقبال، حالة الانتفاع، ثم تبدأ حالة النفور والوحشة، وانعدام الرغبة لسماع هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وعدم الرغبة حتى إلى سماع القرآن، أو تلاوة القرآن الكريم، ثم يتَّجه الإنسان اتجاهاً آخر في حياته والعياذ بالله.
يقول الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}[الكهف: من الآية57]، حالة الإعراض هي الحالة التي يتَّجه الإنسان إليها بعد أن يفقد العلاقة الإيجابية مع هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، بعد أن يقسو قلبه، بعد أن يفقد التأثر بهدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، والانتفاع من الذكرى، يتَّجه إلى حالة الإعراض عن هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، فلم يعد ينتفع به، ولا يتفاعل معه، ولا يتأثر به، ولا يكون له أي نتيجة في واقعه العملي، كأنه لم يسمع، كأن في أذنيه وقراً، كما يشبِّه الله هذه الحالة في القرآن الكريم، فيصل الإنسان إلى حالة خطيرة جداً على نفسه، يظلم نفسه بذلك، ويتجه إلى إنسان ظلوم في هذه الحياة، منحرف عن تعليمات الله، عن توجيهات الله؛ لأن الإنسان إذا فقد ارتباطه بهدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفك هذه الصلة، وابتعد عن هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، لم يعد يسمعه، لم يعد يتفاعل معه، لم يعد يتأثر به؛ فهو على المستوى العملي أيضاً على مستوى أعماله، التزاماته العملية، سلوكياته، تصرفاته، سيبتعد كما ابتعد عن السماع للهدى، عن التفاعل مع الهدى، عن الإقبال على الهدى، ففي الواقع العملي كذلك.
يبدأ الإنسان مع قسوة القلب، ومع البعد عن الهدى، والغفلة عن الهدى، يتَّجه في مسيرته العملية اتجاه المعرض عن هدى الله، عن آيات الله، عن تعليمات الله، عن توجيهات الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيتصرف بعيداً عن ذلك، لم يعد لديه إحساس بالمسؤولية تجاه ما يعمل، وأنَّه سيحاسب، وأنه سيجازى، وأنَّ عليه أن يعمل الأعمال الصالحة، وأن يرتبط في عمله ومسيرة حياته بهدى الله وتعليماته.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، والحالة فعلاً أيضاً حالة سيئة بالنسبة للإنسان؛ لأنه يسيء إلى الله حينما يتجاهل آيات الله ربه، الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” هو ربنا، الخالق لنا، المنعم علينا، الرازق لنا، والذي إليه مصيرنا، لا مناص لنا من ذلك، إليه مرجعنا جميعاً، فالإنسان حينما يصل به الحال أنه لم يعد يتفاعل مع هدي الله، مع آيات الله، مع تعليمات الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، والله ربك المنعم عليك، فهذه حالة خطير جداً.
{وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، ينسى الإنسان المسؤولية تجاه ما يعمل، كأنَّ الحياة فوضى، كأنه لا حساب، ولا جزاء، ولا ثواب، ولا عقاب، كأنه ليس لأعماله آثارها ونتائجها عليه هو، جزءٌ من تلك الآثار والنتائج في هذه الدنيا، وجزءٌ منها وهو الكبير والأوفى في عالم الآخرة، التي هي عالم جزاء للأبد، عالم جزاءٍ للأبد، وجزاء كبير.
هذه الحالة إذا وصل فيها الإنسان، وتلاشت علاقته مع هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” على المستوى الإيجابي، وقسى قلبه، وأصبح معرضاً؛ يخذل والعياذ بالله، يخذل، ويسلب بالتوفيق؛ ولهذا يقول الله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف: من الآية57]، مع الإعراض، مع التجاهل لهدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، مع الغفلة التي يتجه إليها الإنسان، ثم هو ذلك الذي ينفر، ولم يعد يرغب في أن يسمع هدى الله، ولا أن يذكَّر بآيات الله “جلَّ شأنه”، يخذل بشكلٍ تلقائي، أوتوماتيكي، قلبه يقسو، ثم يصل الحال في واقعه، في قلبه، في مشاعره، في سماعه أو موقفه من هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وكأن على قلبه أكنَّة، كأن على قلبه غطاء، مختومٌ على قلبه، يتحول الحال إلى مستوى خطير للغاية، فلا يصل إليه شيءٌ من نور الله، ولا من هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، أصبح عليه غطاء، وأصبح مختوماً عليه والعياذ بالله.
حالة الصمم عن هدى الله، يتحوَّل الإنسان وكأنه أصم، يسمع وكأنه لم يسمع، لا يتفاعل، لا يتأثر نهائياً، فتكون النتيجة هي: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى}[الكهف: من الآية57]، الهدى الذي هو هدى للإنسان، نجاةٌ للإنسان، فوزٌ وفلاحٌ للإنسان، هدايةٌ له تصل به إلى الغايات العظمى، إلى الفوز العظيم، إلى السعادة الأبدية، إلى النجاة من عذاب الله، {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف: من الآية57]، إصرار على العمى، إصرار على الضياع، على الضلال، على الاتجاه في الطريق المودي إلى الهلاك، إلى العاقبة السيئة، إلى نار جهنم والعياذ بالله، وهي حالة خطيرة جداً.
هذا النوع من العناد، من الغرور، من التمادي، من الإصرار على الإعراض، يستمر فيه الإنسان إلى أن يأتيه الموت، عندما يأتي موعد الرحيل من هذه الحياة، يستفيق لكن بعد فوات الأوان، بعد فوات الأوان، لم يعد لديه من فرصة ليصحح وضعيته من جديد، ليتذكر، لينتفع بالذكرى، ليُقبل على هدى الله وتعليماته، يدرك في اللحظة الأخيرة من هذه الحياة أنَّ الفرصة قد انتهت، يحاول أن يحصل على فرصة إضافية، فلا يمكنه ذلك، لا يتحقق له ذلك، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون: 99-100]، فاتت الفرصة، لم يعد بالإمكان أن يحظى بفرصةٍ إضافية.
ثم في الآخرة، في الآخرة يتذكر الإنسان، بعد ذلك الغرور، بعد ذلك التمادي، بعد ذلك الإصرار على الإعراض، بعد تلك الحالة التي قد تصل به إلى درجة التكبر والعناد الشديد في ساحة الحشر، في مقام الحساب والسؤال، بعد القيامة، بعد قيام القيامة، يصل الإنسان إلى التذكر، ولكن يتذكر متأخراً جداً، بعد فوات الأوان، وبعد انعدام أي فرصة جديدة؛ ولذلك يقول الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}[الفجر: 21-23]، {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}، تذكَّر اليوم، اليوم تذكَّر، تذكَّر في هذه الحياة، تذكَّر وأنت في هذه الفرص العظيمة، التي تستفيد من التذكر فيها، الآن يمكنك أن تنتفع بالذكرى، وأن تستفيد بالتذكر، وأن تصحح وضعيتك العملية، وأن تسعى للارتقاء الإيماني.
لكن عندما تعاند الآن، عندما لا تصغي في هذه الفرص، في هذه الحياة التي وهبك الله إيَّاها، في هذه المواسم العظيمة البركات، وتصر وتعاند وتعرض؛ آنذاك لن تنتفع بالذكرى، لن تفيدك بشيء، لن تغيِّر شيئاً من تلك النتيجة الحتمية التي ستتجه إليها رغماً عنك، لا يمكنك أن تخالص نفسك منها، وأن تنقذ نفسك منها.
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، كان في الدنيا هناك التذكير الذي يذكِّرك بجهنم، ولديك الفرصة لأن تعمل ما يقيك من الوصول إلى جهنم، من عذاب الله الأكبر: جهنم، كنت تذكَّر في هذه الدنيا بآيات الله، فيها الحديث عن جهنم، عن أوصاف العذاب في جهنم، تُذكَّر بما يقيك من جهنم، ومن ذلك العذاب، بما تفوز من خلاله وتحظى برضوان الله، والنعيم العظيم في جنته، لكنك لم تتذكر، لم تلتفت، كان اتجاهك هو اتجاه الإعراض والغفلة، فآنذاك عندما يؤتى بجهنم، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، تراها وتسمعها وتتذكر آنذاك، احتجت إلى أن تراها رأي العين، رأي اليقين، من قريب، حينئذٍ لم تعد تنتفع بالذكرى.
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 23-24]، ها هي الفرصة أمامك الآن في هذه الحياة لتقدِّم لحياتك الأبدية، لمستقبلك الأبدي، لمصيرك في الآخرة.
أمَّا التذكر آنذاك، والتحسر، والندم؛ فلن يفيدك بشيء، التمني في ساحة الحساب، في ساحة المحشر،{يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}، لم يعد ينفعك بشيء،{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر: 25-26]، حينما يصلون إلى جهنم، يحترقون بين نيرانها، يعذَّبون بأنواع العذاب فيها، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}[فاطر: من الآية37]، أتت لك الفرصة الكافية في هذه الحياة، ولكنك أنت لم تنتفع؛ وحينذاك لم يعد يفيدك بشيء أن تتذكر، ولا أن تنتبه، ولا أن تتحسر، ولا أن تندم.
ولذلك نحن في هذه الفرصة الثمينة (في فرصة الشهر رمضان) علينا أن ندرك قيمتها وأهميتها، وأن نُقبِل على هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” بقلوبنا، وأن نصغي لهدى الله، وأن نتفهم هدى الله، أن نُقبِل على القرآن الكريم، أن ننتفع بالتذكير من خلال القرآن الكريم، أن نستفيد من البرنامج، الذي نسمع فيه هدى الله، وثقافة القرآن الكريم، وأن نحرص على أن نتأثر بذلك، أن نفتح قلوبنا لذلك، وأن نلتفت إلى واقعنا العملي من خلال ذلك؛ لأن الثمرة تأتي إلى الواقع العملي.
مشوارنا– إن شاء الله- في المحاضرات الرمضانية لهذا العام، سيكون ابتداءً بالحديث عن أهمية التقوى في محاضرتين، نتحدث فيها أيضاً عن الآخرة، ونقدِّم نماذج مما ذكره الله في القرآن الكريم عن ذلك، ثم سيكون المشوار بعد ذلك مع القصص القرآني، القصص في القرآن الكريم موردٌ عظيمٌ وغنيٌ بالهدى، وبالعبر، وبالدروس التي نحتاج إليها، ونستفيد منها، وهو مما قدَّم الله فيه الكثير من الهدى، الذي يفيدنا في هذه الحياة تجاه مسؤولياتنا، وما نواجهه في هذه الحياة من تحديات وأخطار، وأيضاً نستفيد معرفة الكثير من الحقائق المهمة، التي علينا أن نعرفها، مما يزيد في بصيرتنا، وفي وعينا، وفي توجهنا على أساس هدى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي حلِّ الكثير من مشاكلنا في هذه الحياة، القصص القرآني غنيٌ بالهدى، وبالعبر، وبالدروس العظيمة والمهمة.
إن شاء الله، بإذن الله، بتوفيق الله، بما يلهمنا الله، سنقدِّم الدروس القرآنية في المحاضرات في هذا الموسم المبارك، في هذا الشهر المبارك، من خلال القصص القرآني.