(نص الدرس السادس) للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي دروس من حكم أمير المؤمنين علي عليه السلام 16 ذو الحجة 1445هـ 22 يونيو 2024م
دروس من حكم أمير المؤمنين علي “”عَلَيْهِ السَّلَام””
ألقاها السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي “يَحْفَظُهُ اللَّه”
الدرس السادس
السبت 16 ذو الحجة 1445هـ 22 يونيو 2024م
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في سياق الحديث على ضوء نصوصٍ من حكم أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَام”، كنا في الدرس الماضي تحدثنا على ضوء خطبةٍ، مقاطعة ومقتطفات من خطبةٍ له “عَلَيْهِ السَّلَام”، وتتحدث تلك المقتطفات عن ولاية الأمر، وما يرتبط بها من حقوق ومسؤوليات، على الولاة والأمة، على الولاة وعلى المجتمع.
ومن الواضح أن من أهم ما نحتاج إليه كمجتمعٍ مسلم هو: أن نمتلك الرؤية الإسلامية الصحيحة، فيما يتعلق بولاية الأمر، وما يرتبط بها، من حقوق، ومسؤوليات، والتزامات؛ لأن هناك نقصاً كبيراً فيما يتعلق بهذا الجانب، نقص كبير على مستوى الوعي، على مستوى أيضاً الإشكالية الناتجة عن تقديم المفاهيم الخاطئة، التي توظَّف في خدمة جهات من أبناء الأمة، ممن كانوا يمارسون الجور والظلم من موقع ولاية الأمر، والسيطرة على الأمة.
فنجد فيما تحدث به وقدَّمه أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام”، على ضوء هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم، وهدي النبي الأكرم محمد “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، نجد فيه الرؤية الصحيحة، والمنطقية، المقبولة، المنصفة، العادلة، التي يتضح جلياً وبديهياً إيجابيتها، وفائدتها، وصلاحها لواقع الناس، نعيد قراءة النص، أو بعضاً منه، ثم نتحدث على ضوئه استكمالاً لما بدأناه في الدرس الماضي.
قال “عَلَيْهِ السَّلَام”:
((أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُم، فَالحَقُّ أَوْسَعُ الأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِي لَهُ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ، لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ؛ لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى العِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ، تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ المَزِيدِ أَهْلُهُ.
ثُمَ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الحُقُوقِ: حَقُّ الوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الوَالِي، فَرِيضَةً فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةُ، فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدُّولَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ)).
كنا تحدثنا على ضوء هذا النص، ولم نستكمل الحديث، وحديثنا بالتأكيد سيكون حديثاً عن بعض ما نستفيده من هذه النصوص؛ لأن ما فيها من الهدى، وما فيها من النور هو واسعٌ جداً، ولكننا نأخذ ما نحتاج إليه أمسَّ الحاجة بحسب الظروف وبما يتسع له الوقت.
في إطار هذا الحديث تتضح لنا الرؤية الصحيحة للمسؤولية العامة؛ لأن الحديث هنا هو عن المسؤولية العامة، وما يترتب عليها من صلاحٍ وفلاح، ما يترتب على الرؤية الصحيحة الإسلامية من نتائج في واقع الناس صلاحاً وفلاحاً لكل شؤونهم، وأول ما ينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار في هذه المسألة هو: كيف ننظر من خلال رؤية عامة، وليس نظرةً شخصية، تبنى عليها مكاسب شخصية، وحسابات شخصية ضيقة.
البعض من الناس- مثلاً- ينظر إلى مسألة المناصب من منظور شخصي، لديه عشق لأن يكون له منصب معين، أو وظيفة معينة، أو أن يكون في موقع من مواقع المسؤولية، ولكن من منظورٍ شخصي، واهتمامٍ شخصي، ومصالح شخصية، وحسابات شخصية، ونظرة شخصية ضيقة، وهذه آفة، آفة.
لكن المنظور الصحيح هو: الرؤية العامة، بمعنى: أن يكون لدينا كمؤمنين نظرة عامة إلى أهمية المسؤولية العامة، وما يترتب عليها، ويرتبط بها من صلاح شأننا، وانتظام أمرنا، وإقامة الحق والعدل في واقعنا؛ لأن إقامة الحق في ميدان الحياة، في واقع الناس، وإقامة العدل، والسعي لصلاح شؤون الناس وواقعهم، من أهم ما يؤثر فيه هو ولاية الأمر وإدارة شؤون الأمة؛ لأنها مواقع للمسؤولية، وتؤدى من خلالها هذه المهام بشكلٍ ودورٍ أساسيٍ، هناك القرار، هناك الإمكانات، إمكانات الأمة، إمكانات الدولة، هناك موقع الأمر والنهي والتأثير في حياة الناس، والمهمة الأساسية لمواقع المسؤولية في ولاية الأمر وإدارة شؤون المجتمع هي- بحسب نظرة الإسلام ورؤية الإسلام- لأداء هذا الدور في واقع الناس، لأداء هذا الدور المقدَّس والعظيم والمهم، والذي هو ضرورة، وحاجة، ومسؤولية مُقدَّسة، ففي مسألة إقامة الحق في واقع الناس، إقامة العدل بينهم، والانتصاف للمظلومين، ومنع التظالم، والعمل على إصلاح المجتمع، واستقامته، وإصلاح أحواله في مختلف مجالاته: الأمنية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية… وغيرها، هذا يتعلق بولاية الأمر وإدارة شؤون الناس، تلك هي المواقع المهمة لأداء هذه المسؤولية بنفوذ، بسلطة، بصلاحيات، بقرار، بتأثير، بامتلاك أيضاً عوامل التأثير، وإمكانات القيام بهذه المسؤولية على مستوى كبير.
فنحن كأمة مسلمة ننظر من خلال هذه النظرة العامة، كيف ينتظم لنا أمرنا نحن، بما فيه الخير، والفلاح، والعزة، والكرامة، والصلاح بشكلٍ عام، وبما يرضي الله تعالى عنَّا؛ لأننا ننتمي إلى الإسلام، إلى الدين الإلهي الحق، ووفقاً لانتمائنا، وانطلاقاً من هويتنا الإيمانية، وليس بالتأثر بما لدى الآخرين ممن يتنكَّرون لرسالة الله، ويكفرون بهديه وتعاليمه، هذه النظرة العامة، مسألة مهمة جداً؛ وبالتالي اهتمام الإنسان هو كيف يؤدِّي دوراً في هذا الإطار العام، في إطار المسؤولية العامة، كيف يسهم، كيف يعيَّن:
إمَّا من موقع انتمائه للأمة؛ باعتباره من أبناء هذه الأمة، التي لديها هذه المسؤولية العامة، كمجتمع، وولاه، ومسؤولين.
أو بحسب مؤهلاته، وما يمتلكه من قدرات، ومواهب، وكفاءة، في موقع من مواقع المسؤولية.
المسألة هي مسألةٌ تعنينا جميعاً، حتى لو لم يكن الإنسان في منصب، هو في إطار المسؤولية العامة، وهو كواحد من أبناء الأمة يستطيع أن يكون مسهماً إسهاماً مهماً بحسب طاقته، قدراته، إمكاناته، لكن له أثره، له أثره، له أهميته، ولما يقدِّمه من إسهام قيمةٌ وأثرٌ عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في عداد أن الإنسان يعمل الأعمال الصالحة، ويؤدِّي مسؤولياته التي أمره الله بها، وهذا بدلاً من النظرة الشخصية التي هي منطلقة من الأطماع، مثل ما هو حال عشَّاق المناصب، الذين يريدون مناصب معينة، لماذا؟ من أجل تحقيق مكاسب مادية، من أجل تحقيق نفوذ لممارسة مظالم، من أجل هواية للتكبر، والغطرسة، والتباهي على الناس… وغير ذلك، النظرة الضيِّقة هي معتمدة على الأطماع، والأهواء لحسابات مادية، أو مكاسب شخصية.
الاتجاه العام وفق الرؤية الصحيحة له نتائج مهمة، وهو الذي يرتقي بالأمة في كل شؤونها؛ أمَّا الحسابات الضيِّقة على المستوى الشخصي، وحتى لو كانت أكثر من المستوى الشخصي، على المستوى الشخصي والفئوي، أو الحزبي، في نطاق معين محدود، لا ينظر إلى واقع الأمة بشكلٍ عام.
هذا المبدأ المهم الذي هو مرتبطٌ بانتمائنا للإيمان والإسلام، أتت عنه آيات كثيرة في القرآن الكريم:
منها قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}[النساء: من الآية135]، هذا مما يقدِّم لنا هذه المسؤولية، المسؤولية الجماعية في التحرك كأمة، لإقامة القسط في واقع الحياة.
منها قوله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}[المائدة: من الآية8].
منها قوله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}[التوبة: من الآية71].
منها قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: الآية104].
هكذا، حتى كما سبق الحديث في الدرس الماضي، عن العقوبات، والجزاءات، والحدود، مثل: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}[المائدة: من الآية38]… وغير ذلك.
هي تُقدِّم لنا هذا العنوان: عنوان المسؤولية العامة، وأن يستشعر كلٌّ منا أنه معنيٌ بهذه المسؤولية، وله علاقة بها، وهي مرتبطة بشؤوننا، ليست المسألة في الإسلام أنَّ هناك مجموعة من المسؤولين هم وحدهم المعنيون، والبقية ليس لهم أي علاقة بهذه الأمور، هناك علاقة، وهناك ما يحدد مستوى الأدوار على ضوء هذه العلاقة بالمسؤولية العامة.
كذلك نجد- مثلاً- في الحديث النبوي الشريف: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))، هذا الخطاب الذي يبين لنا أننا جميعاً في موقع المسؤولية كمجتمع مسلم، في إطار مسؤولية واحدة، هي هذه المسؤولية: إقامة القسط في الحياة، الدعوة إلى الخير، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، السعي لنظم أمرنا وإدارة شؤوننا وفق تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وهديه.
((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِه))، يعني: حتى على المستوى الأسري، ((وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَّةٌ عَلَى بَيْتِ زوجِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُم))، هذا في الحديث النبوي الشريف، فهذا هو من المبادئ المهمة المتعلقة بهذه الرؤية الصحيحة للمسؤولية، وما يترتب عليها.
وبناءً على ذلك تكون الانطلاق لأداء هذه المسؤولية قائمةً على التعاون، وعلى التفاهم، على الاهتمام الجماعي، الانطلاقة الجماعية، التعاون الجماعي، ويأتي كمبدأ مرتبط بهذه الرؤية أيضاً هو: مبدأ تكامل الأدوار، ليس الأداء بشكلٍ فوضوي، يسبب النزاع، والخلافات، والمشاكل؛ إنما هناك مبدأ تكامل الأدوار في أداء هذه المسؤولية ما بين الولاة والمجتمع، هناك اهتمامات هي تتعلق بالجميع، وإسهام يشترك فيه الجميع، وهناك مهام في إطار أدوار معينة داخل هذه المسؤولية العامة، كلٌّ يؤدِّي دوراً معيناً بحسب موقعه، قدراته، إمكاناته، كفاءته… إلى غير ذلك، ثم كذلك فيما يتعلق بالولاة، بحسب مهامهم، وطبيعة مسؤولياتهم، ويأتي أدوار تخصصية، تحتاج إلى تخصص، إلى معرفة، إلى متطلبات لأداء تلك المهمة، التي هي جزء من هذه المسؤولية العامة، وهذا جانبٌ مهم، جانبٌ مهم؛ لأن الإسلام هو دينٌ منظَّم، ليس عشوائياً، كل شيء فيه منظَّم، حتى العبادات الروحية، التي لها هدف روحي وتربوي كالصلاة، نجدها منظَّمة في أوقاتها، في أذكارها، في أركانها، في هيئاتها… إلى غير ذلك، وهو دين الحكمة.
من المبادئ المهمة والأساسية المرتبطة بالمسؤولية العامة، هي: مبدأ الحق، الحق هو العنوان الذي تبنى عليه المسؤوليات، وتتفرَّع عنه الحقوق، فليس هناك أبداً مجالٌ للمزاجية والأهواء والرغبات الشخصية لتكون هي الأساس، التي يتصرَّف الإنسان من خلالها في الشأن العام، وفي الواقع، ومع الناس، في تعامله معهم؛ لأنها سينتج عنها مظالم، ومفاسد، ومشاكل… وغير ذلك، هي بعيدة عن الإنصاف.
وتحدثنا عن هذه النقطة في الدرس الماضي: أنَّ الحق مرتبطٌ بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الحق مصدره الله فيما هدى إليه وشرعه لعباده، وهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” القائل: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[البقرة: الآية147]، وتتفرَّع بقية الحقوق عن ذلك.
أول الحقوق: حقُّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على عباده أن يطيعوه، هذا حق لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على العباد؛ لأنَّه ربهم، ملكهم، إلههم، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ربنا، ربُّ العالمين، ملكنا، إلهنا، له حق الأمر والنهي فينا، ملك السماوات والأرض، والمالك للسماوات والأرض، ربُّ كل شيء، ومالك كل شيء، ثم تتفرع عن ذلك بقية الحقوق التي بين العباد، وما يترتب عليها من مسؤولياته، وهذه نقطة مهمة.
أشرنا في الدرس الماضي عن أنَّ ما يضبط لنا عنوان الحقوق، فلا تحرَّف، ولا تزيَّف، هو هذا الضابط: أنها متفرِّعة عن حق الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على عباده فيما شرعه لهم، وهداهم إليه؛ ولذلك ليست المسألة مزاجية، أن يقوم إنسانٌ ما بوضع قائمة تحت عنوان حقوق، مثل ما يفعله الأمريكيون والإسرائيليون والدول الغربية، يضعون قوائم تحت عنوان حقوق، ثم يدرجون تحتها كل المفاسد والرذائل، ممارسة الجرائم الأخلاقية يدرجونها ضمن ماذا؟ ضمن عنوان الحقوق، معظم المفاسد والرذائل والجرائم يدرجونها تحت عنوان حقوق، وتحت عنوان الحريات الشخصية، وهم بذلك يسيئون إلى إنسانية الإنسان وكرامته، ويسيئون إلى الحقوق والحق، فهنا ما يضبط هذه المسألة وهو: أنها مرتبطة بما شرعه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفعلاً، الحقوق التي حددها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتتفرَّع عن حقه على عباده في إطار تدبيره وشرعه، وحتى في التدبير لواقع عباده في شؤونهم، ثم كذلك ما يرتبط به وينسجم معه، وهو الجانب التشريعي؛ لأنه متطابقٌ تماماً، هذا العنوان هو الذي يتطابق فيه المضمون مع العنوان، الحقوق التي شرعها الله لعباده فعلاً حقوق، يتطابق مضمونها مع عنوانها، ويبنى عليها الإنصاف، ويبقى على الناس التطبيق والتنفيذ؛ أمَّا الطريقة الغربية فهي طريقة فوضوية، وهدر للقيام والأخلاق.
ثم ضمن هذا المبدأ المهم: مبدأ الحق، وما يتفرَّع عنه من الحقوق، أولها وأساسها: حقُّ الله، تتفرَّع عنه حقوق العباد التي شرعها الله فيما بينهم، وجعلها تتكافأ، ويوجب بعضها بعضاً، هناك مبدأٌ مهم: الحق لك وعليك، وهذا مبدأ مهم للغاية؛ لأن الكثير من الناس- كما قلنا في الدرس الماضي- يريد الحق وأكثر من الحق، لا يكتفي بالحق، الحق وأكثر من الحق له؛ أمَّا عليه، فهو لا يبذل الحق، ولا يقدِّم الحق، ولا يعطي ما عليه من الحق، وهذا خطأٌ كبير.
مبدأ الحق لك وعليك هو الذي يتحقق به الإنصاف والاستقرار في حياة الناس، وهو المتطابق- فعلاً- مع الحق؛ لأنك عندما تريد الحق لك فقط، ولا تؤتي ما عليك من الحق، ولا تعطي ما عليك من الحق، فأنت غير منصف، وأنت هنا تمارس الظلم، حال البعض من الناس يقول الله عنهم: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}[النور: الآية49]، لكن إذا دعوا والحق عليهم؛ يتعنَّتون، ويتهرَّبون، ويحاولون أن يرفضوا أي استجابة لتقديم ما عليهم من الحق؛ ولذلك يقول الله عنهم: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[النور: الآية50]، الإنسان الذي هو هكذا: يريد الحق لنفسه، وأحياناً أكثر من الحق، ولا يرضى ولا يقبل بأن يعطي الحق الذي عليه، هو ظالم، {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وكُثُرٌ هذا النوع من الناس.
وهذا المبدأ في مسألة أن تقبل بالحق لك وعليك، هو مبدأٌ عظيمٌ ومهم، إذا فرَّط الناس فيه؛ فالتنكر له منشأٌ لكثير من المظالم، والمفاسد، والمشاكل، كم من المشاكل هي ناتجة عن هذا الاجتزاء والبتر، ممن يريدون الحق لأنفسهم، ولا يريدون أن يؤتوا ما عليهم من الحق، وهذا شيء مهم، في المعاملات بين الناس، وأيضاً في أداء المسؤوليات، في أداء المسؤوليات عليك حق تترتب عليه مسؤوليات معينة، عليك أن تُقدِّم هذا الحق، هذا المبدأ العظيم هو يجنِّب الناس الكثير من المشاكل، والعوائق، والمظالم.
تفرُّع الحقوق عن حقه تعالى يربطها بشرع الله، كما قلنا: ليست مزاجية، هذا من جهة، وأيضاً يبين لنا أنَّ الالتزام بها هو جزءٌ من الالتزام الإيماني والديني، ومن الطاعة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن الله هو الذي حدد تلك الحقوق، فأداؤها هو أداءٌ لحق يتفرَّع عن حقِّ الله تعالى، ولهذا الحقوق وما يترتب عليها من مسؤوليات في الإطار الأسري، مثلاً: مع الوالدين، أو بين الزوج والزوجة، أو في الأسرة بشكلٍ عام، ما بين الأب والأم وأولادهما، أو على المستوى الاجتماعي بشكلٍ عام، في نطاق المسؤولية العامة، أو مستوى مجتمعٍ معين، في كل النطاقات والمستويات، هذه الحقوق هي متفرِّعة عن حقِّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفق شرعه تعالى ونهجه، وتترتب عليها مسؤوليات بناءً على ذلك، فالأداء لها هو من الأداء لحقِّ الله تعالى، طاعة لله “جَلَّ شَأنُهُ”، والتفريط فيها هو عصيانٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإساءةٌ إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تجاه حقٍّ تفرَّع عن حقِّ الله “جَلَّ شَأنُهُ” عليك، وهي بهذا المستوى من الأهمية؛ لأن البعض من الناس، ممن هو ضعيف الإيمان، قليل الالتزام، يستهتر في مسؤولياته تجاه الآخرين، تلك المسؤوليات التي هي مترتبة على حقوق معينة شرعها الله، وتفرَّعت عن حقه تعالى، فالتفريط بها هو عصيانٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
كذلك حالة التجاوز، التجاوز للحق هي حالة طغيان، طغيان، إذا كان إنسان من تلك النوعية الذي لا يقتصر على الحق، يريد أكثر من الحق، ليس عنده قبولٌ بالحق، يُعرَض عليه الحق، ويُقدَّم له الحق، فلا يقبل به، لماذا؟ لأنه يريد ما هو أكثر من الحق، هذه الحالة هي حالة ماذا؟ طغيان بكل ما تعنيه الكلمة، والإنسان الذي هو بهذا الشكل: لا يقبل بالحق، ويريد أن يتجاوز الحق، ويريد أكثر من الحق، أو يريد غير الحق بكله، يريد ما هو باطل، هو طاغية، قد طغى، أصبح من الطغاة، ومن الطاغين، طغى وتجاوز الحد والحق.
البعض من الناس يدفعه إلى الطغيان، وأن يكون طاغية لا يقبل بالحق، ويتجاوزه:
إمَّا موقع في مسؤولية معينة: هو مسؤول في مسؤولية معينة، هو مسؤولٌ في الحكومة مثلاً، أو قائد عسكري، أو قائد أمني.
أو له نفوذ اجتماعي: هو شخصية اجتماعية لها وجاهة، ولها نفوذ.
أو أطغاه ماله وثروته.
أو أي عامل من عوامل الطغيان، ودافع من الدوافع السيئة، التي تؤثر تأثيراً سيئاً على نفسية الإنسان، فتجعله لا يقبل بالحق.
الإنسان قد يطغيه نفوذه، أو موقعه، أو ماله؛ ولذلك الحالة التي يكون الإنسان فيها هكذا، هي حالة سيئة، الإنسان فيها مقصِّرٌ ومخلٌّ في دينه وإيمانه.
وعندما نأتي إلى سلبياتها وآثارها السيئة في واقع الحياة: كم ينشأ عنها من الفتن، من المشاكل، من تعقيد القضايا، من تعقيد الحلول المتعلقة بالمسؤوليات، عنده مشكلة في أدائه لمسؤولياته يستعصي حلها؛ لأنه هكذا: إنسان لا يقبل بالحق، ولا يتفهم الحق، هو متجاوز وطاغية، وكذلك في القضايا الاجتماعية، في المعاملات، كم يحصل من مظالم وفتن، وكم تتعقد من قضايا، ويصعب حلها، ويتأخر حلها لدهرٍ طويل، نتيجةً لهذه الاشكالية.
أمَّا عندما يكون الإنسان مؤمناً بهذا المبدأ العظيم: بالحق له وعليه، وملتزماً بذلك؛ فهذا له أهمية كبيرة جداً في تفادي الاستنزاف بين الناس، للوقت، والجهد، والمال، والأعمال التي لا طائلة منها، لذلك أهميته الكبيرة في حياة الناس.
عندما تحدث أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” عن الحقوق المتعلقة بالمسؤولية العامة، قدَّمها أعظم الحقوق، بقوله، وهذا نصٌ مهم: ((وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ))، ((مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ)) يعني: فرض من الله، فرض من الله “جَلَّ شَأنُهُ”، ((مِنْ تِلْكَ الحُقُوقِ: حَقُّ الوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الوَالِي))، ثم يؤكد من جديد: ((فَرِيضَةً فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ)).
الحقوق المرتبطة بالمسؤولية العامة، وولاية الأمر، وإدارة شؤون الأمة، حقوق مشتركة، يعني: جزءٌ منها على الولاة للمجتمع، وجزءٌ منها على المجتمع للولاة؛ لأنها مرتبطة بمسؤولية مشتركة، مسؤولية جماعية، ولأن لها علاقة كبيرة جداً بشؤون الناس في دينهم ودنياهم، ولها تأثيرها الكبير عليهم في حياتهم، وفي واقعهم… في كل مجالات حياتهم، وفعلاً تأثيرها على الناس في وضعهم الاقتصادي، والمعيشي، والسياسي، والاجتماعي، والأمني… في كل شؤونهم، وفي دينهم ودنياهم؛ ولذلك كان لها هذه الأهمية.
عندما نأتي إلى هذه الحقوق، وما يترتب عليها من مسؤوليات، مسؤوليات كبرى، وارتبطت بمهام كبرى، تحدثنا عنها في بداية الدرس، فنجد هنا في مسألة طاعة الوالي، طاعة الوالي هي حقٌّ له، إذا كان والياً وفق الشروط والمواصفات الإسلامية، طاعته هي في إطار مهمته، الطاعة له هي في إطار مهمته، والمهمة هي مرتبطة بالناس، فهم عليهم أن يطيعوه في إطار مهمته المرتبطة بهم، والتي تعود إلى خدمتهم، ليست طاعة هناك خارج هذا النطاق، بل فيما هو لهم، ويعود إليهم، ويتعلق بشأنهم، فعليه مهمة تجاههم، مهمته في إقامة الحق، في بسط العدل، في الانتصاف للمظلومين، في السعي للصالح العام، في السعي لما فيه الخير لهم… إلى غير ذلك، رعاية مصالحهم الدينية والدنيوية، في إطار هذه المهمة، وهو يسعى لتنفيذها، عليهم أن يطيعوه، كيف ينجح في أداء مهمته المتعلقة بهم إذا كانوا لا يستجيبون له؟!
وهو- كذلك- عليه حقوق، حتى أنَّ دوره بكله مرتبطٌ بهم، لهم، ومن أجلهم، وفي مصلحتهم، وفي خدمتهم، وعليه أن يكون مساره العملي قائماً على هذا الأساس، اهتماماته، برنامجه، خططه، ما يسعى له، أوامره، تعليماته، توجيهاته، في هذا السياق، في هذا السياق نفسه، وفي إطار شرع الله وهديه وتعليماته، فكانت المسألة مبنية على هذا الأساس، وفي نطاق ما حدده الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من مسؤوليات، المسألة لها ارتباط بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
((لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ))، ولذلك لابدَّ من التعاون، لابدَّ من التعاون، ولابدَّ من التفاهم، ولابدَّ من الاستجابة، لتتحقق النتيجة العظيمة والمهمة من خلال التعاون.
((فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ))، تلك الحقوق، وما يترتب عليها من مسؤوليات والتزامات، جعلها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” نظاماً تنتظم بها أحوالهم، فتكون الثمرة لذلك هي الألفة فيما بينهم، والانسجام، والتفاهم، والتعاون، والاستقرار في واقع حياتهم، بدلاً من أن تكون العلاقة ما بين الولاة وبين المجتمع هي علاقة سيئة، علاقة تذمُّر، واستياء، وتنازع، وخصومات، ومشاكل، وصراعات، فتكون لها نتيجة سيئة في حياة الناس، وفي واقعهم، وفي أحوالهم، تأتي هذه الحقوق وما يترتب عليها من مسؤوليات والتزامات عملية لتنظم شؤونهم بما يحقق الانسجام؛ وبالتالي الاستقرار في حياتهم، والتفاهم، والتعاون، الذي يتاح من خلاله التحرك لبناء نهضة في حياة الناس.
والألفة، والانسجام، والاستقرار، هي عاملٌ أساسيٌ للنهضة والازدهار في حياة الناس، النهضة الحضارية التي تقدِّم نموذجاً للحضارة الإسلامية، والازدهار في حياة الناس، وللصلاح، ولتفادي الاستنزاف الكبير جداً للجهود والأوقات في الصراعات والمشاكل، بدلاً من أن يكون الناس منشغلون بالمشاكل، والنزاعات، والخلافات، والصراعات، والكلام على بعضهم البعض، والمؤامرات والمكائد ضد بعضهم البعض، تتوجه جهودهم، طاقاتهم، اهتماماتهم بما يبني واقعهم، ويبنيهم كأمة، وكدولة، ليكونوا أمةً عظيمةً، قويةً، مزدهرة، يتَّجهون إلى بناء واقعهم الاقتصادي، بناء واقعهم في كل المجالات، الارتقاء في واقعهم التربوي، والبناء الإنساني، والتنمية البشرية الحقيقية في مفهومها الصحيح… إلى غير ذلك، فيتفرَّغون للأشياء الإيجابية، والأشياء المهمة، التي تصلح أحوالهم، بدلاً من أن يضيِّعوا كل أوقاتهم، وكل جهودهم، أو معظمها، في الأشياء التي لا طائل منها، أو في أشياء تضرهم، ولا تفيدهم، ولا تنفعهم.
ثم قال “عَلَيْهِ السَّلَام”: ((وَعِزّاً لِدِينِهِمْ))، وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن هذه الأمة لها ميزة، هي: الارتباط بالدين، والانتماء إلى الدين الإلهي الحق، دين الإسلام، فيسود الدين في مبادئه، وقيمه، وأخلاقه، وشرعه، أصبح هو المعتمد، هو الدستور، وهو القانون، وهو النظام الذي ارتبط به الناس في شؤونهم، وحياتهم، وأعمالهم؛ وبالتالي تستقيم الحياة، ويتصحح مسار الأمة، وهذا مهمٌ للناس جداً في الدنيا والآخرة؛ لأننا أمة نحسب في حسابنا أمور الآخرة، وليس فقط أمور الدنيا، أن يهمنا ما به نجاتنا وفوزنا وفلاحنا عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن نكسب رضوانه في الدنيا والآخرة.
العزُّ للدين هو عزٌّ للأمة، إذا أصبح الدين له أهميته، يُعمل به، يلتزم به الناس، يحتكمون إلى شرعه، إلى نهجه، إلى قيمه، إلى مبادئه، يلتزمون بها، هذا هو عزٌّ لهم هم، الوضع المختلف يكون البديل عن عزِّ دينهم، هو ماذا؟ أن تسود المظالم، الجرائم، المفاسد، الطغاة، المجرمون، الظالمون، الجائرون.
إذا أقصيت مبادئ دين الله، وقيمه، وأخلاقه، وشرعه، ونهجه من حياة الناس، ومن موقع إدارة شؤونهم، وولاية أمرهم، وأصبحت هناك على الهامش، فالبديل عنها هو ما يأتي من الظالمين، والفاسدين، والجائرين، والمضلين، والمجرمين، فتكون هي التي تغلب على الناس وتفرض نفسها في واقع الناس، تفصَّل منها سياسات، وأسس في التعامل مع المجتمع، وتغلب على واقع الناس؛ وبالتالي يتغلَّب الأشرار، والانتهازيون، والظالمون على الناس.
ثم قال “عَلَيْهِ السَّلَام”: ((فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةُ))، الصلاح العام للولاة والمجتمع، هو مرتبط بهذا: بصلاح الولاة واستقامة الرعية، صلاح الولاة في أنفسهم من جهة، وفي أدائهم لمسؤولياتهم:
صلاحهم في أنفسهم، فلا يكونوا فاسدين، جائرين، انتهازيين، مستغلين، مستهترين بمسؤولياتهم، منطلقين من منطلق الأهواء النفسية، والمكاسب الشخصية، والحسابات الشخصية الضيِّقة، لا يهمهم الناس، ولا يتقون الله في عباده، هي الحالة الخطيرة، أن يكونوا صالحين، مستقيمين، بعيدين عن تلك الحالات السيئة.
كذلك في أدائهم لمسؤولياتهم على الوجه الصحيح.
وفي علاقتهم أيضاً بالمجتمع، وتعاملهم مع الناس، التعامل مع الناس جزءٌ من صلاح الولاة.
واستقامة الرعية هو مهم:
مهمٌ جداً حتى في تفاعلها، واستجابتها من جهة، تتفاعل مع ما يقدَّم لها، مع ما تدار به شؤونها، مع ما تنتظم به أحوالها، تستجيب، تتفاعل.
وكذلك أيضاً في دورها في إصلاح الولاة واستقامتهم؛ لأن استقامة الرعية يمكن أن تكون عاملاً مهماً في تصحيح وضع الولاة.
الوالي السيء- مثلاً- الذي يبتز الناس مالياً في أدائه لمسؤولياته، ويرتشي، عندما يتعامل الناس معه بناءً على ذلك، عرفوا أنه مسؤول فاسد، وأنه يرتشي، وأنه يبتز مالياً من خلال موقعه في المسؤولية، فلا ينجز المعاملات التي عليه إنجازها، وهي معاملات صحيحة، إلَّا مقابل مال، هذا ابتزاز، لا يجوز له، ومحرمٌ عليه، وما يأخذه بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب هو سحت وحرام، الناس إذا عرفوا أنه كذلك، فانطلقوا ليتعاملوا معه بناءً على ذلك، ومشوا معه على هذه الحال، وأصبحوا يتعاملون معه بناءً على أنه بهذا الشكل: يدفعون إليه الرشوة، يقدِّمون له الأموال التي يبتزهم عليها، هذا يجرِّؤه، وهذا يساعده على أن يستمر على ما هو عليه من انحراف وفساد، لكن إذا اتَّجه الناس لمنعه، أو إزاحته وتغييره، والضغط بذلك، فهذا مما يساعد على صلاح الولاة.
أيضاً الرعية إذا لم يكونوا هم من يتَّجهون أحياناً لإفساد المسؤول، يحاولون هم أن يقدِّموا له الإغراءات، ويحاولون أن ينحرفوا به، هذا أيضاً جانب مهم، أن يكونوا حذرين، لا يكون لهم دور في إفساد ولاتهم ومسؤوليهم، البعض من الناس- مثلاً- لعلاقاتهم الاجتماعية يحاول إفساد مسؤول معيَّن، والبعض من الناس بوسيلة الترغيب والإغراء… وغير ذلك.
فالاستقامة من جهة الرعية، وصلاح الولاة ثمرته هي: صلاح حال الناس، وأن يكون الصلاح عاماً في واقعهم، وهذا يترتب عليه التكامل في أداء المسؤولية، وتتحقق به نتائج مهمة جداً: صلاح الولاة، واستقامة الرعية، الرعية عليها أن تستقيم، والولاة عليهم أن يكونوا صالحين، المسؤولين كذلك، إذا تحقق ذلك؛ تحققت نتائج كبيرة، ومهمة، وعظيمة على النحو التالي:
أولها: قال “عَلَيْهِ السَّلَام”: ((فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الحَقُّ بَيْنَهُمْ)):
هذه مسألة مهمة جداً؛ لأنه يصبح الالتزام بالحق، والتمسك به، باعتباره الأساس الحاكم للعلاقة بين المجتمع والولاة والمسؤولين، الحق، التعامل على أساسه قائم، والعلاقة على أساسه، وهو الحاكم لهذه العلاقة بين الولاة والمجتمع، ودور الولاة والمجتمع- كذلك- دورهم جميعاً يصبح الحاكم له هو الحق، فتعود للحق أهميته وقيمته لدى الناس، ومكانته اللائقة في حياتهم وواقعهم؛ لأنه لابدَّ أن يكون للحق مكانة في حياة الناس، في واقعهم وأنفسهم، وإلَّا إذا ضاع الحق، ما هو البديل عنه؟ ما الذي يستحوذ على الناس كبديل عن الحق؟ البديل عن الحق هو استحواذ وسيطرة الباطل، والظلم، والقهر، والطغيان، فتكون ممارسات المسؤولين جائرة، ظالمة، فاسدة، وتعامل المجتمع معهم على هذا النحو، يبرز من المجتمع كذلك، يبرز من المجتمع شخصيات انتهازية، جائرة، فاسدة، تدخل في مصالح مشتركة ومتبادلة مع المسؤولين السيئين، ويكون الضحية هو بقية المجتمع، أمامه هناك مسؤولين فاسدين، وسيئين، وظالمين، وجائرين، ومن وسط المجتمع- كذلك- تظهر شخصيات جائرة، ظالمة، فاسدة، تتجه في إطار مصالح شخصية ضيِّقة بحق وبغير حق، وبظلم وطغيان، وترتبط في إطار علاقات مصالح متبادلة مع المسؤولين السيئين.
لكن إذا كانت المسألة وفق الاتجاه الصحيح، والحق هو الذي يحكم العلاقة والدور للجميع؛ ((عَزَّ الحَقُّ بَيْنَهُمْ))، الناس بحاجة إلى الحق في حياتهم.
((وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ)):
تعاليمه وشرائعه، التي ترسم المسار الصحيح للناس في كل المجالات: في المجال الاقتصادي، يُنظم الوضع الاقتصادي للمجتمع على أساس تعليمات الله، وشرائعه، وهديه، تعليمات الله القيِّمة، الحكيمة، الصحيحة، التي يترتب عليها الخير الكبير للناس، وتنقذهم من المظالم والمفاسد، وتحقق لهم المصالح الحقيقية لهم، والنظيفة، والسليمة من المفاسد، وكذلك في بقية الأمور، تقوم مناهج الدين، تقوم في الواقع، تصبح واقعاً قائماً يلتزم الناس به، فترسم لهم المسار الصحيح في وضعهم الاجتماعي، ووضعهم السياسي… وبقية شؤونهم، وتتجه بهم الوجهة الصحيح.
((وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ)):
يعني: استقامت وقامت المعالم التي يستدل بها على العدل، فتكون المعالم واضحة، وظاهرة، ومعمولٌ بها، معالم تدل على العدل في قضايا الناس، في أمورهم، فيسهل البت في قضايا الناس، والفصل في خصوماتهم، وسرعة الانجاز لقضاياهم، يتخلَّصون من التعقيدات الطويلة الكبيرة، التي تنتج عن الالتفافات، والحيل، والمخادعة، والغش، والأنظمة الفاسدة، التي تجعل قضايا الناس بعيدة عن العدل، قضايا غامضة، ومليئة بالمظالم، ومليئة بالتعقيدات، فيصعب حلها، فاعتدال معالم العدل، يعني: أن تستقيم، وأن تقوم، وأن تظهر في الواقع، وتنتظم شؤون الناس وقضاياهم، وحلها يكون سهلاً، لا يجلس الناس على القضية الواحدة معقَّدين، أو قضية معقَّدة تستنزف جهدهم، وطاقتهم، ومساعيهم ليل نهار لدهر طويل، من أجل حل قضية واحدة، تكون الأمور يسيرة، الناس ينجزون أمورهم؛ وبالتالي يتقدَّمون إلى الأمام، يتقدَّمون إلى الأمام، لا يغرقونهم وهم منشغلون في أتفه القضايا، وغارقين في مشاكل هنا، ومشاكل هناك، وتعقيدات هنا، وتعقيدات هناك، يصعب حلها، معالم واضحة للحق، تُفصَل فيها الأمور، وتنجز فيها قضايا الناس وخصوماتهم، وكذلك إشكالاتهم، وتتجه الأمور في الواقع العملي.
((وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ)):
وهذه أيضاً مسألة مهمة جداً في الواقع، يعني: تجري (السُّنَن): الطرق المعتمدة المشروعة عن الله ورسوله، وعلى أساس تعاليم الله وهدي نبيه، تجري بسهولة وسلاسة، من دون تعقيدات، من دون تعقيدات، وهذه مسألة مهمة.
ما الذي يعاني منه الناس؟ التعقيدات في كل شيء، قضايا معقَّدة، حلها معقَّد، فصلها معقَّد، معاملات معقَّدة، سياسات معقَّدة، تُطبع الحياة بكلها بتعقيدات، تعقيدات في كل شيء، هي لغياب هذه المسألة.
لكن إذا اتَّجه الناس على أساس (الحق لهم وعليهم) بتقبل وإيمان، ووعوا مسؤوليتهم بشكل صحيح؛ تنجز الأمور، يتخلصون من كثير من العوائق والتعقيدات، ويستفيدون من أوقاتهم، وجهودهم، وطاقاتهم، وأفكارهم فيما يبنيهم، فيما يصلح واقعهم، فيما يرتقي بهم؛ وإلَّا بقوا غارقين تماماً في تعقيدات وقضايا، القضية التافهة يمكن أن تستغرق الجهد والوقت وكل شيء، ويبقى الناس فيها زمناً طويلاً دون أن يصلوا إلى نتيجة.
((وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ))، السُّنَن: الطرق المعتمدة، المشروعة على أساس تعاليم الله، وهدي نبيه، تمشي، تُنجز للناس أمورهم العملية، التي ينبغي أن يتحركوا فيها، حتى الخطط الناجحة يمكن تنفيذها بتفاعل واستجابة، دون معوقات ولا عراقيل؛ أمَّا الواقع الذي يضيع الحق فيه، يصعب فيه كل شيء؛ ولذلك إذا (جَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَن)، يعني: جرت بسلاسة، بسهولة، بدون تعقيدات، حتى الخطط المهمة، التي تبنى على أساس الأهداف الكبرى للأمة، والمصالح الحقيقية للأمة، يمكن أن تنفَّذ بسهولة، بدون عوائق ولا عراقيل، فتمشي.
((فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ)):
يعني: بصلاح الزمان صلاح أحوال الناس في واقعهم، في كل المجالات: في الجانب الأمني، والاقتصادي، والاجتماعي… وغيره، تصلح أحوالهم.
((وطُمِعَ في بقاء الدولة)):
لأنها دولة للناس، لخدمتهم، للاهتمام بشؤونهم، ومرتكزة على أسس قوية، ومع هذا الاستقرار، وهذا الصلاح لأحوال الناس، تكون باقية، وهناك أمل في بقائها، وطمع في بقائها؛ لأنها ليست مهددةً من الداخل.
عندما يكون الواقع الداخلي مليئاً بالاختلالات، والمظالم، والعلاقات المتوترة، والوضع المضطرب، هذا يمثل تهديداً لدولة الناس، مهددة بالاختلالات، بالنزاعات، بالمفاسد… وغير ذلك مما يهددها بالانهيار.
((وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ )):
تكون الدولة قوية تجاه التهديد المعادي من جهة الأعداء؛ لأن الأعداء يطمعون إذا وجدوا ثغرة، أو وجدوا خللاً داخلياً، أو اضطراباً ومشاكل وأزمات وفتن في الوضع الداخلي، تكون مُطْمِعةً لهم، وفي هذا الزمان أعداء الأمة أكثر طمعاً، وأشد عداءً، وأكثر استغلالاً للثغرات، والمظالم، والفتن، والخلل الداخلي، وهم يتَّجهون إلى استغلاله على الفور: استغلال إعلامي، استغلال في تأجيج الفتن، استغلال في التدخل المباشر… استغلال في أشياء كثيرة.
فلذلك هذه الحالة هي الحالة النموذجية، الحالة الصحيحة، الحالة الواعية: إذا اتَّجه الناس على هذا الأساس: على أساس الحق، والالتزام بما عليهم من الحقوق، والقيام بما عليهم من مسؤوليات والتزامات على ضوئها، وفق هدي الله ودينه، تكون النتائج هذه النتائج المهمة والعظيمة: ((عَزَّ الحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدُّولَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ)).
فهنا تكتمل لنا رؤية فيها أهم الأسس، التي تستقيم بها حياة الناس وأحوالهم، ويصلح بها شأنهم، من خلال إصلاح واقعهم، والنظرة إلى المسؤولية العامة بشكلٍ صحيح، وكذلك ما يتعلق بولاية الأمر، وإدارة شؤون الأمة.
نكتفي بهذا المقدار…
نَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛