خمس سنوات في وجه العدوان السعودي الإماراتي.. كيف صنع اليمنيون التاريخ؟
بقلم / د. عبدالعزيز بن حبتور … رئيس حكومة الانقاذ الوطني
* بكل صلف المفردات والعبارات وخشونتها، يشرح المتحدث الأعْرَابي المتوحش بزهوٍ وافتخار أنه دمّر اليمن وشعبه العظيم، وردد مع ولي نعمته ووزير دفاعه بأن المعارك لن تدوم سوى أسابيع.
مَنْ مِنّا لا يتذكّر تلك الساعات العصيبة من صبيحة يوم الخميس 26 آذار/مارس 2015 في مُعظم محافظات الجمهورية اليمنية، حين انهالت الطائرات (العربية المسلمة) المُغيرة على المدن والقرى اليمنية بحِمم صواريخها من جميع الأحجام، مقرونة بقنابلها الذكية والعنقودية، على المدن والقرى والجسور والمطارات والموانئ وغيرها من بنك أهدافها (العسكرية) الإجرامية!
كان المواطنون في حالة سباتٍ عميق في تلك الأثناء. وفجأةً، ومن غير سابق إنذار، انهالت حِمم جهنّم على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ والعمال والمرضى، والمسجونين في إصلاحياتهم الآمنة أيضاً.
هكذا بدأ المشهد التراجيدي في أولى ساعاته، واستمر بطبيعة الحال إلى يومنا هذا، بعد مرور 5 سنوات عجاف من العدوان.
كُلنا يتذكّر الطلّة المشؤومة للجنرال أحمد العسيري، الناطق باسم غرفة العمليات العسكرية لدول العدوان، من إحدى الغرف الوثيرة في عاصمة دولة العدوان الأولى، الرياض عاصمة السعودية، عندما كان يتحدث في الأسبوع الأول من العدوان قائلاً إن طائراتهم سيطرت على الأجواء اليمنية بنسبة 100%، وإنهم دمّروا جميع المنظومات الدفاعية اليمنية من طائرات ورادارات وصواريخ، والمنصات المخصّصة لإطلاقها وخلافه، وإنهم يشنّون غارات ليلية وصباحية، وعلى مدار الساعة، بهدف شل حركة أطراف المؤسسات العسكرية والأمنية للجيش اليمني والحرس الجمهوري واللجان الشعبية والأمن المركزي وبقية المؤسسات. ولهذه المهمة، تم تنفيذ ما يفوق 2000 غارة جوية يومياً، ناهيك عن الصواريخ أرض-أرض بمختلف مدياتها، والمدفعية المتطورة، والبوارج الحربية.
هكذا كان يُصرح ويتحدث إلى وسائل الإعلام المعادية والمحايدة على حدٍ سواء. وبكل صلف المفردات والعبارات وخشونتها، يشرح المتحدث الأعْرَابي المتوحش بزهوٍ وافتخار أنه دمّر اليمن وشعبه العظيم، وردد مع ولي نعمته ووزير دفاعه بأن المعارك لن تدوم سوى أسابيع، وربما أشهر، وسيتجوّل بعدها كفاتحٍ مِغوار في شوارع مدينة صنعاء القديمة وأحيائها، لكن، وهي إرادة الله سبحانه وتعالى، وبصمود الشعب اليمني وأبطال الجيش واللجان الشعبية، وأدت المدينة أحلامهم الشيطانية في رمال صحاري اليمن وجبالها الشامخات وسهولها الطاهرة التي ابتلعت مخططات الغزاة والعملاء والمرتزقة والمنافقين؛ أعداء الأرض اليمنية والإنسان اليمني الحر. أليست اليمن مقبرة الغُزاة؟!
اليوم، يحتفل اليمانيون بفخرٍ واعتزاز باليوم الوطني للصمود والثبات والمقاومة في ذكراها السنوية الخامسة على جحافل العدوان السعودي- الإماراتي وعملائهم من اليمنيين الخونة للوطن والشعب. وبينما نتهيأ لبلوغ العام السادس رويداً رويداً، فإن الشعب والجيش واللجان الشعبية يحققون أعظم الانتصارات على جميع الجبهات، وقد وضعوا لهذه الانتصارات عناوين بارزة هي:
أولاً: تحقيق انتصارات على العدو في جبهات ما وراء الحدود (جيزان ونجران وعسير).
ثانياً: تحقيق انتصارات كبيرة بواسطة الطيران المسيَّر والصواريخ الباليستية في المطارات الحيوية لنجران وجيزان وعسير، وحتى الرياض، وحقول شركة أرامكو السعودية العملاقة ومصافيها، مثل مصفاة بقيق، مصفاة الشيبة، محطتي عفيف والدوادمي، مصافي ينبع، وغيرها من الأمكنة التي تعرّضت لهجوم الجيش اليمني واللجان الشعبية.
ثالثاً: أنجز الجيش واللجان الشعبية عدداً من الانتصارات في الجبهات العسكرية المشتعلة مع دول العدوان، تمثلت في عملية “نصر من الله” و”البنيان المرصوص”. وتحوّلت هذه الانتصارات البطولية على أرض الجبهات إلى ما يشبه الإلهام الأسطوري الذي عادةً ما تسطّره الشعوب الخارقة القوة والتضحية، ما حفّز الشباب المجاهد من جميع المحافظات على التقاطر إلى الجبهات طالبين الالتحاق بها، حتى إن القيادات العسكرية والأمنية في الميدان أخبروني بأنهم لم يعودوا يستوعبون تلك الأعداد المهولة التي تطلب الالتحاق بالجبهات، ما اضطر المسؤولين إلى تنظيم برامج ثقافية وتوعوية مصاحبة للإعداد للقتال.
هذا الإلهام الوطني الشّامل في تَمثّل التضحية والإقدام من أجل الوطن يعد واحداً من دروس التجربة لواقعنا المعيش في زمن العدوان.
صناعة التاريخ اختصاص الشعب اليمني
صناعة التاريخ والنقش على جداريته بحروف من نور رباني ليسا من اختصاص شعب دون غيره، وهناك معطيات وشواهد عديدة كتبها قبلي العديد من المؤرخين والرواة والمثقفين من ذوي الاختصاص. وما تم العثور عليه من نفائس التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر في التربة اليمنية كان شاهداً حياً على عظمة هذا الشعب.
وبالعودة إلى تجارب التاريخ في حقبات الحضارات اليمنية الخالدة، مثل سبأ وحِمْير وحضرموت وأوسان وقتبان ومعين (وهنا لا نستطيع أن ندوّن إنجازاتها في مقالة سردية قليلة الأسطر)، وإلى الشخصيات البارزة من القادة اليمانيين العظام الذين ساهموا بفعالية في نشر الدين الإسلامي الحنيف في ربوع قارات العالم القديم، وتركوا إرثاً مهنياً وسياسياً وعسكرياً كبيراً، كل ذلك يؤسس ويثبت للحاضر المعيش معادلة جيوسياسية واستراتيجية توضح بجلاء أن اليمانيين خرجوا من العدوان الوحشي أكثر صلابة وقوة وتلاحماً؛ هذا العدوان الذي وقع عليه من يُفترض بهم أن يكونوا أشقاءه بالنسب والدين وربما المذهب.
إنها معادلة مركّبة معقّدة تبدأ بحِلف الأعداء المكوّن من أغنى دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء سلطنة عُمان، ولاحقاً انسحاب دولة قطر من الحِلف، إضافة إلى دول عربية وإسلامية ترتبط مصالحها بالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ومعها مرتزقة من اليمنيين ومقاتلي تنظيم داعش والقاعدة و”بلاك ووتر” الذي يضم مقاتلين من مختلف قارات العالم والجنجويد من السودان.
كلّ هذا الحِلف غير المقدس يُدار من غرفة عمليات عسكرية واحدة تحت إشراف القادة العسكريين الأميركيين والبريطانيين. وفي الطرف الآخر من المعادلة، تتصدى المقاومة لتلك الجحافل المُعتدية بثبات، وللعام الخامس، وهي تتمثل بالشعب اليمني بقيادة “أنصار الله”– الحوثيين وحلفائهم وحزب المؤتمر الشعبي العام وحلفائه.
أليست مفارقة عجيبة وكبيرة أن يقف حِلف يمتلك كل ذلك العتاد العسكري واللوجستي، وقدرات مالية واقتصادية خارقه، ودعم دبلوماسي عالي المستوى من مُعظم دول العالم الغربي (الرأسمالي الإمبريالي)، ولكنه رغم ذلك يتقهقر وينهزم، بل وينكسر أمام طلائع الجيش اليمني واللجان الشعبية المسلحة بأسلحة خفيفة (كلاشنكوف) وأسلحة متوسطة في مُعظم المواجهات العسكرية المباشرة؟ أليس ذلك إحدى مفارقات الزمن وأساطير سالف الزمان وقصصها ورواياتها؟! نعم هو كذلك، لأن الإنسان اليمني هو حقيقة الحاضر وأسطورة الزمان والمستقبل معاً.
ماذا تعلمت الأجيال اليمنية من دروس هذا العدوان الأعرابي الوحشي عليها؟
تشير كل مصادر التاريخ، عبر مراحله المختلفة، إلى حقيقة ثابتة، وهي أن الدافع وراء ذلك الغزو والاحتلال هو مصلحته المباشرة وغير المباشرة، ولا يوجد دافعٍ آخر غير ذلك. إذاً، ما هي دوافع العدوان السعودي– الإماراتي على اليمن؟
أولاً: هذا العدوان الحالي على اليمن ليس العدوان الأول، ولا نحسبه الأخير، فقد شنت مملكة آل سعود حروباً متعددة على اليمن (شماله وجنوبه)، منها: عدوان الثلاثينيات والستينيات والسبعينيات، وآخرها حرب صيف العام 1994 من القرن العشرين.
ثانياً: مُعظم دول مجلس التعاون الخليجي هاجسها تقسيم اليمن إلى أكثر من جزء، لأنها ببساطة لا تريد دولة يمنية مركزية أو اتحادية قوية إلى جوارها.
ثالثاً: مُعظم دول مجلس التعاون الخليجي لديها عقدة من تاريخها وهويتها وماضيها. ولذلك، إن أَي ذِكر للتاريخ العروبي لليمن يقزم ماضي هذه الدويلات وحاضرها، ولو امتلكت كل ثروة الأرض.
رابعاً: هناك أطماع جيو-استراتيجية واقتصادية لدول الجوار في الجغرافيا والسياسة اليمنية. ولذلك، فهم يحلمون بالسيطرة على الجزر والموانئ اليمنية، بما فيها إطلالتهم على فضاء البحر العربي والسيطرة على مضيق باب المندب الاستراتيجي.
خامساً: يمتلك اليمن مخزوناً بشرياً هائلاً. وخوفاً من أن يكون هذا العامل المهم منافساً حقيقياً في مختلف المجالات، تعمّدوا أن يبقوه شعباً غير مواكب للعصر والعلم والتعليم.
وقد عملوا جاهدين، وبأساليب عدة، على أن يبقوه شعباً فقيراً وغير مؤهل، وخلقوا له العديد من البؤر المتوترة داخلياً بين قبائله وطبقاته الاجتماعية المختلفة، وبشكل مستمر ودائم.
سادساً: مُنذ أن وطئت أقدام الغزاة الأرض اليمنية المقدسة في تموز/يوليو 2015، أخذ المواطنون في تلك المحافظات الواقعة تحت الاحتلال يعانون الأمرّين، إذ عمد المحتل إلى أن ينشئ “ميليشيات مسلّحة” مارست بحق المواطنين اليمنيين أبشع أنواع التنكيل، بل وساموهم سوء العذاب، وظلّ المواطنون في هذه المحافظات طيلة الفترة الماضية يعيشون في ظل كابوس الاختطافات، والمداهمات الليلية، وفتح السجون غير القانونية، والتعذيب والإعدامات بالجملة.
هذا واقع الحال في المحافظات الواقعة تحت الاحتلال، ناهيك بما قامت به تلك الميليشيات الانفصالية المناطقية المتخلفة من نهبٍ للممتلكات العامة والخاصة، وصلت حد العبث بالقبور الإسلامية والمسيحية واليهودية وإزالتها والبناء فوقها.
وكذلك، تم العبث بالأماكن الأثرية لمدينة عدن، ووصل النهب حد السطو على المدارس ومصافي الزيت والموانئ وردم الشواطئ، ووصل النهب المنظم إلى الحَرم الجامعي لجامعة عدن في مدينة الشعب.
سابعاً: جرت تغذية الحالة الانفصالية والعنصرية المريضة التي روّج لها البعض من قادة الحزب الاشتراكي اليمني المنهزمين في صيف حرب تثبيت الوحدة اليمنية في العام 1994، وعدد من بقايا العهد الاستعماري البريطاني.
تلك الممارسات والنزعات الانفصالية المقيتة تلقّفها أولئك الانفصاليون، وهم بقية من بقاياهم الذين روّجوا لفصل الجنوب اليمني عن الجسد اليمني الكبير، إذ تعمّد المستعمر الإماراتي أن ينشئ “قوى أمنية انفصالية موتورة” مدجّجة بأحدث الأسلحة، ومكّنهم من صرف المبالغ المالية السخية.
وقد مارس هؤلاء الموتورون خلال السنوات الخمس الأعمال الإجرامية العديدة التي حدثت في عدن على وجه التحديد، إذ قاموا بنهب ممتلكات اليمنيين الخاصة، وهجّروا الإسماعيليين، ودمّروا مساجدهم، وقاموا بإحراق الكنائس التي كانت ذات يوم رمزاً لتعايش الأديان وتسامحها في مدينة عدن.
كما قاموا بتهجير اليمنيين من أبناء المحافظات اليمنية الشمالية والغربية، ونهبوا أملاك المواطنين من أبناء المحافظات اليمنية الشرقية. كما أن المحتلّ الإماراتي الخبيث زرع الفتن والأحقاد العنصرية بين أبناء الوطن الواحد، حتى ينشغل الجميع بالجميع، فيتفرغ لنهب الجزر والموانئ والمطارات اليمنية ذات الأهمية الاستراتيجية.
إنّ الشعب اليمني، من أقصى البلاد إلى أقصاها، أمضى 5 سنوات من المعاناة الرهيبة جرّاء الحصار والعدوان بنجاح تام، ولكنها كانت عبارة عن أبواب وفصول وأقسام لكتابٍ رهيب عنوانه “اليمن عاش ويعيش أكبر مأساة إنسانية في العالم لما بعد الحرب العالمية الثانية”.
تخيّلوا معي كيف تحمّل هذا البلد الصغير والشعب الفقير المظلوم كل هذه المأساة المُفزعة التي راح ضحيتها مئات الآلاف بين شهيد وقتيل وجريح ومعوق ومشرد! كيف أمضى سنواته الخمس العجاف من دون مرتبات ورعايةٍ صحية وخدمات وتعليم (أساسي وثانوي وفني وعالٍ)، واقتصرت الخدمات على الحد الأدنى! أليس هذا الشعب عظيماً وصانعاً حقيقياً للتاريخ؟ نعم هو كذلك، ومن قرح يقرح.
ولهذا، حين نستعرض يوميات سردية هادئة لحياة المواطن الصابر على شظف العيش ومعاناة المعيشة وقسوة “عدوان وحصار الأشقاء العرب المسلمين عليه”، نجدها عبارة عن ملاحم أسطورية يستحيل أن نقارنها بما عاشه شعب ودولة ووطن آخر على هذه الأرض!
هذا الشعب بمختلف شرائحه، من الأطباء والمهندسين والموظفين والمدرسين والعمال والفلاحين ورجال المال والأعمال والجنود البسطاء والفنانين والكتّاب والأدباء، وأساتذة الجامعات والمعاهد العليا، من دون استثناء، تحمّل عبء المعاناة في المعيشة والسفر والطبابة والرعاية، وتُرك من قبل النظام العالمي الظالم يقاوم وحده، وبإمكانياته الشحيحة والمحدودة، ولكنه رغم ذلك حقّق معجزة في المقاومة والصمود العظيم.
ولهذا، نجده في هذه الأيام يحتفل بكبرياء النصر وعزة الوطن وشموخ هامات شهدائه وجرحاه ومرضاه. نعم، إنه يحتفل بنصره وثباته وقوة عزمه وإرادته الفولاذية إلى أن حقق هذا النصر المؤزّر (وقد رسمنا برنامجاً ضخماً لهذه الاحتفالات في يوم الصمود الوطني، لكنه أُلغي بسبب جائحة فيروس كورونا الذي اجتاح العالم بأسره).
ذلك النصر هو رسالة للأشقاء العرب والمسلمين، وللعالم أجمع، بأن إدارة الحروب وتحقيق النصر، لا تصنعهما الأسلحة الفتاكة، والأحلاف الكبيرة من قبل دول العدوان المحمية من أميركا ودول الغرب الرأسمالي، وأطنان النقود (دولارات أميركية وريالات سعودية ودراهم إماراتية) التي يتم صرفها بغباء على المرتزقة وأعوان دول العدوان السعودي– الإماراتي.
إنما النصر في الميدان يحقّقه ويصنعه رجال الرجال، بمباركة من الله سبحانه وتعالى، الرجال الذين فضّلوا التضحية والاستشهاد من أجل حرية الوطن وكرامته وعزته، والله أعلم منّا جميعاً.