مستحيلات حزب الله الثلاثة

|| صحافة ||

وسط ركام التصريحات والتحركات والتهديدات، وبين تلال المقابلات والمقالات والتحليلات، تسطع حقيقة واحدة حصراً، وهي أنّ “إسرائيل” كيانٌ ذليل يقف مرغماً على “إجر ونص”. وهي، استعجالاً للعقاب في حالة استجداءٍ مقيم، ترجوه رحيماً وقابلاً للاحتمال، فـ”إسرائيل” من الهشاشة بحيث إنّها لا تستطيع الوقوف طويلاً على “إجر ونص”، لأن هذا الوقوف خلاف للاستنزاف المادي والمعنوي، فهو يجعل منها طرفاً وظيفياً غير فعال، وهو أخطر ما يمكن أن يواجه موظفاً على مستقبله، لذلك فإنّ الحشود غير المسبوقة شمال فلسطين المحتلة منذ عدوان تموز 2006، خلاف أنّها محاولة يائسة لجعل حزب الله يفكر مرتين قبل الإقدام على عملية الردّ، فهي في عمقها وأصلها رسالة وظيفية، فحواها أنّ الكيان لا زال قادراً على القيام بوظيفته، وهي الرسالة التي ستثبت جدواها لدى كل الأطراف المعنية باستثناء حزب الله، حيث إنّ المهولين لبنانياً سيتخذونها ذريعة لثني الحزب عن الردّ، كما بالنسبة للمهرولين عربياً نحو التطبيع سيتخذونها ذريعة لإعادة اسطوانة الواقعية والعقلانية، أي الاستسلام والانبطاح قبل لعنة اختراع “مكياجات” المصطلحات.

والتاريخ حافلٌ بالوقائع العقلانية والواقعية، فمثلاً أثناء الغزو التتري للمنطقة، كان من ضمن شروط الاستسلام، أن يغادر أهالي القرى والمدن المستسلمة – الواقعية والعقلانية – مدنهم وقراهم وبيوتهم وأرضهم إلى الصحراء عدة أيام، فيدخل جنود المغول لنهبها، وبعد انتهاء عمليات النهب والسلب والاستيلاء يعود العقلانيون الواقعيون إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم المنتهبة، ثم يبدأ المغول بتجنيد القادرين منهم على حمل السلاح، فيصبحون جنوداً في جيش جنكيز خان ليحاربوا أهلهم في المدن والبلاد التالية. وهناك اليوم جنكيزيون محليون وإقليميون ودوليون يعرضون على حزب الله ذات العرض العقلاني والواقعي وبذات الأدوات، حيث التهويل بالحشود “الإسرائيلية”، كما كان التهويل بحشود المغول.

فقد كان جنكيز خان ينتقي من المدن المستسلمة -العقلانية- رسلاً من شيوخها وكبار تجارها وعلمائها للمدن التالية، فيذهبون برسالةٍ واحدة، فحواها “قد تقاومون المغول، وقد تقتلون منهم رجالاً، لكنهم لا يُهزمون”، أليس هذا هو منطق حاضر المهولين كما ماضيهم وإن اختلفت الوجوه؟

ومثالٌ آخر على العقلانية والواقعية، فقد استسلمت حامية يافا لنابليون بعقلانية شديدة بعد وعوده لهم بأنهم آمنون إن استسلموا، وكانوا قرابة 3000 آلاف جندي، وبعد استسلامهم قرر إعدامهم جميعاً، حيث إنّ أسرَهم سيشكل عبئاً على مسير جيشه ومؤنه، وأمر جنوده بذبحهم ذبحاً توفيراً للذخيرة، فتنعموا بعقلانيتهم وواقعيتهم.

لذلك فإنّه لا يوجد في العالم بعد، من يستطيع اجتراح مستحيلاتٍ ثلاثة، المستحيل الأول هو إقناع حزب الله بـ”عقلانية الاستسلام وواقعيته”، والمستحيل الثاني هو معرفة متى وكيف وأين سيردّ حزب الله، أمّا المستحيل الثالث وهو الأخطر، فهو إدراك ماهية استعدادت حزب الله لما بعد الردّ.

وبوجود هذه المستحيلات الثلاثة، ستنتهي كل محاولات التهويل على الحزب بفضيحةٍ لا تقل عن فضيحة مزارع شبعا، حين ارتعدت فرائص العدو ولا زالت، فأطلق النار على نفسه، ثم تفاخر بأنّه انتصر قبل أن يكتشف العالم أنّه أطلق النار على نفسه، ولم ينتصر حتى على خوفه، لذلك تكررت حالات الاستنفار والتأهب، وقد تتكرر لاحقاً طالما أنّ حزب الله لم يهوِ بقبضته بعد،. فالخوف الذي يعانيه الكيان ليس مجرد خوفٍ من عمليةٍ انتقاميةٍ يُقتل أو يُجرح فيها جنديٌّ أو جنود، بل يتحول إلى رعبٍ حين يفكر في العلاج، فالطبيعي أنّ “دولة” عدوانية حين تفكر بالعلاج، ستفعل كما اعتادت وكما تعرف، القضاء الدموي على مصدر التهديد، وهو ما كانت تفعله سابقاً في اجتياحاتها المتكررة شمالاً وجنوباً، ولكنها تعرف أنّ الأمر مع حزب الله مختلف، حيث إنّه لا علاج لآلام رأسها من الهلع سوى القطع، لذلك فهي حين تفاضل بين خيار احتمال الألم والوقوف طويلاً على “إجر ونص”، وبين خيار قطع الرأس، تختار حُكماً خيار الاحتمال مهما طال.

يتحدث إعلام العدو عن شكل ردودٍ عالية السقوف لحزب الله على استشهاد علي كامل محسن، فمرةً يتحدث عن صواريخ ستنطلق من لبنان لتصيب مواقع حساسة داخل الكيان، ومرة يتحدث عن استخدام طائراتٍ بدون طيار، ومرة يتحدث عن عمليات أسرٍ لجنود “إسرائيليين”، وبعيداً عن حالة الهلع التي تجعلهم “يحسبون كل صيحةٍ عليهم”، فالخائف دائماً مشوش التفكير، وتظهر أفكاره وردود أفعاله في حالة غير سوية، فيبدو أنّ العدو يُجهز سلمه للنزول عن شجرة التهديد والتحشيد، حيث إنّ ردًا للحزب بعيداً عن الصواريخ والأسر، سيكون من المستساغ ابتلاعه لدى الجمهور “الإسرائيلي”، وسيتنفس الكيان الصعداء، ويُقدم الأمر باعتباره خشية لبنانية جعلت من ردّ الحزب موضعياً وموضوعياً.

وبغض النظر عمّا سيحدث بعد ردّ حزب الله، فإنّه ومنذ الآن وحتى حينه، على العدو أن يظل في حالة ثبات على “إجر ونص”، والأهم عليه محاولة التخفيف من الأوهام والكوابيس واختلاق معارك وهمية لا تجري إلّا على لسان ناطقيه وإعلامه، فقد تفوق على دونكيشوت، الذي على الأقل كان يحارب طواحين الهواء، أمّا هو فيحارب خوفه، والأنكى أنّه لا ينتصر عليه ولن ينتصر.

العهد

ايهاب زكي