كلمة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام 1442هـ 30-08-2020
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وعظَّم الله لنا ولكم الأجر بمصاب سيِّد الشهداء، أبي عبد الله الحسين، سبط رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم”، وابن عليٍّ أمير المؤمنين “عليه السلام”، وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله “صلى الله وسلم عليه وعلى آله”.
إنَّ هذه الذكرى المؤلمة والفاجعة الكبرى في تاريخ الأمة لها علاقتها المستمرة بواقع الأمة، مهما تعاقبت الأجيال، ومهما امتد الزمن، ومن جوانب كثيرة، بدايتها فيما يعنيه لنا الإمام الحسين “عليه السلام”، وهو الامتداد لجده المصطفى رسول الله محمد “صلى الله عليه وعلى آله وسلم” خاتم الأنبياء، وهو أيضاً وريث هديه، وقرين القرآن، وحامل راية الإسلام، وهو كما قال عنه رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله”: (حسينٌ مني وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط)، فهو من هداة الأمة، ودوره في مسيرة الهداية لهذه الأمة هو دورٌ رئيسيٌ وعظيمٌ ومهمٌ ومفصلي، وممتدٌ لكل الأجيال.
وعندما تحرَّك الإمام الحسين “عليه السلام” في تلك المرحلة الخطيرة والحسَّاسة، فهو تحرك بمقتضى إيمانه العظيم، وبمقتضى الهداية الإلهية، وبمقتضى المسؤولية التي يستشعرها، وبمقتضى الدور المنوط به فمن واقعه الإيماني العظيم، ومن موقعه في القدوة والقيادة والهداية، وبحكم اقترانه بالقرآن الكريم اتخذ الإمام الحسين “عليه السلام” قراره وحسم خياره في مواجهة الطغيان الأموي، الذي يمثِّل تهديداً للأمة في هويتها الإسلامية؛ وبالتالي في كل واقعها، وفي كل مسيرة حياتها، فإذا غيِّبت رسالة الإسلام من واقع الأمة، فيما تقدِّمه من هدايةٍ ونور ومعرفةٍ صحيحة، وفيما تصنعه من وعيٍ وبصيرة، هل يكون البديل إلَّا الضلال، والمفاهيم المعوجة الظلامية، والباطل الذي يلبَّس ثوب الحق ويحمل عناوينه، وإذا غيِّبت رسالة الإسلام من واقع الحياة كمنهجٍ تربويٍ وأخلاقيٍ يزكي النفوس، ويطهر القلوب، ويقوِّم السلوك، ويصلح الأعمال، هل يكون البديل إلَّا السياسات والممارسات المفسدة للنفوس، والهابطة بالإنسان، والمنتجة للرذائل، وإذا غيِّبت رسالة الإسلام من واقع الحياة كمنهجٍ للعدل، هل يكون البديل إلَّا الظلم والجور، والإجرام والطغيان، وإذا غيِّبت رسالة الإسلام من واقع الحياة كمشروعٍ حضاريٍ يرتقي بالناس، ويبني الأمة لتؤدِّي دورها في الإستخلاف في الأرض، وعمارتها، وبناء الحياة في كل مجالاتها، على أساس المبادئ والقيم الإلهية، والتعليمات والشرع الإلهي، هل يكون البديل إلَّا التخلف والضياع، وغياب الهدف في مسيرة الحياة، وإذا غيِّبت الرسالة الإلهية من واقع الحياة في دورها الرئيسي الذي يحرر الإنسان من العبودية للطاغوت، ومن الاستغلال لمصلحة الأشرار والمستكبرين، هل يكون البديل إلَّا الاستعباد، والإذلال، والقهر، وامتهان الكرامة الإنسانية، والاستغلال الظالم، ومن هنا نعرف قضية الإمام الحسين “عليه السلام”، وماذا يعنيه لنا في مشروعه وحركته، فهو لم يقبل بالسكوت تجاه سعي الطغيان الأموي لتفريغ الإسلام من محتواه، واحلال الموروث الجاهلي بديلاً عنه، مع إلباسه الأسماء والعناوين الإسلامية.
لقد أراد طغاة بنو أمية أن يكون الإسلام مجرد عنوانٍ قابلٍ للتبديل في يومٍ من الأيام، وأن يكون إسلاماً لا يحق حقاً، ولا يبطل باطلاً، ولا يقيم عدلاً، ولا يصلح واقعاً، ولا يحل مشكلةً، ولا مشروع له في الحياة، ولا دور له في بناء الأمة، ولا يزكي النفوس، ولا يصنع الوعي، ولا يستبصر بنوره المجتمع، ولا يحرر الإنسان، فهم أرادوا أن تكون الأمة مدجَّنةً لهم، وكانت سياساتهم التي يعتمدون عليها لتحقيق هذا الهدف وفق ما عبَّر عنه الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم” في تحذيره للأمة منهم، في عباراتٍ جامعةٍ وعميقةٍ ومهمةٍ وشاملةٍ: (فقد اتخذوا دين الله دَغَلا، وعباده خَوَلَا، وماله دُوَلَا)، فماذا يمكن أن يبقى للأمة بعد ذلك؟ وماذا يمكن أن يبقى بعد ذلك للإسلام من أثرٍ في واقع الأمة؟ وهذه الحالة هي التي عبَّر عنها الإمام الحسين “عليه السلام” بقوله: (أَلَا ترون أنَّ الحق لا يعمل به، وأنَّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت إلَّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلَّا برما)، وعندما يغيب الحق من واقع الحياة فلا يعمل به، ويحل الباطل بدلاً عنه فلا يتناهى عنه، يتغير واقع الحياة، فيصير مظلماً، ويحل مع الباطل الضلال، والظلم، والفساد، والمنكر، ولا يبقى للحياة قيمة، ويطغى الظلم، ويطغى الشر والإجرام.
لقد وصل تأثير الطغيان الأموي آنذاك في الساحة الإسلامية إلى مستوىً خطير، تجلى ذلك في حالة التخاذل، والخنوع، والاستسلام، والذلة، والتنصل عن المسؤولية، والرضا بالضعة والهوان لدى الكثير من أبناء الأمة، وكان الأخطر في ذلك كله أن طغاة بني أمية يعملون على تنفيذ مخططاتهم في الأمة من موقع السلطة، وبمقدرات الأمة، بعد أن تمكنوا من الوصول إلى هذا الموقع المهم نتيجةً للانحراف الخطير في واقع الأمة، فعظم خطرهم، وتفاقم شرهم، وكبر إجرامهم، وخاف الكثير منهم، وباع البعض ذممهم وولاءاتهم لهم بالمال الرخيص وبالمناصب.
وفي المقابل كان تحرك الإمام الحسين “عليه السلام” يمثل الإسلام الأصيل في منظومته المتكاملة، ويجسد مبادئه وتعاليمه بالقول وبالفعل، فقدم نور الإسلام وبصيرته وهديه إلى الأمة، وحمل قضية الإسلام للأمة، وتحرك براية هذا الإسلام، وجسد مبادئه في موقفه، فإذا بنا نرى الإسلام الحق، إسلام القرآن، وإسلام محمد، ورسالة الله دين حريةٍ وإباء، لا يقبل بالعبودية للطغاة، ولا بالخنوع للمجرمين، وكانت صرخة هذا الإسلام في ميدان المواجهة، وكان خياره الحاسم يعبِّر عنه الإمام الحسين “عليه السلام” بقوله: (لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرُّ إقرار العبيد).
وكانت صيحته المدوية وموقفه الحازم يعبِّر عنه قول الإمام الحسين “عليه السلام”: (أَلَا وإنَّ الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة وبين الذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، ونفوسٌ أبية، وأنوفٌ حمية تؤثر مصارع الكرام على طاعة اللئام)، وإذا بنا نرى الإسلام يصنع الثبات والصمود، والتفاني والاستبسال، والتضحية والإيثار في أقسى الظروف وأصعب المراحل، وفي مواجهة أعتى التحديات، وببصيرةٍ ووعيٍ عالٍ، وفهمٍ صحيح، ونورٍ يكشف كل الظلمات.
لقد حفظ الله بتلك الجهود والتضحيات التي قدَّمها الإمام الحسين “عليه السلام” وأنصاره الأوفياء “رضوان الله عليهم” في كربلاء استمرارية الإسلام الأصيل، وامتداد الحق قولاً وفعلاً، وبحسب التعبير المعاصر صوتاً وصورة، وهي النسخة الأصلية التي يفيدها قول رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم”: (حسينٌ مني وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط)، مع عظيم المنزلة عند الله، ورفيع الدرجات لديه، والتي بلغ فيها السبط الشهيد مع أخيه الشهيد الإمام الحسن “عليهما السلام” المقام المتقدِّم والريادة في جنة الخلد، كما قال رسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”: (الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة).
وقد استمرت المعركة، وامتد الصراع إلى اليوم بين معسكر الإسلام الأصيل ومعسكر النفاق والزيف، بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وهي اليوم تعنينا في عصرنا، وهي معركةٌ لا تقبل الحياد، فإما حقٌ وإما باطل، وما بينهما باطل، وإن شعبنا اليمني المسلم العزيز، يمن الإيمان، يمن الأنصار حدد مساره، وحسم خياره وقراره في التمسك بالإسلام في أصالته، التي ثمرتها الحرية والاستقلال والكرامة، وهو يأبى الاستسلام والخنوع للطغيان اليزيدي المتمثل بأمريكا وإسرائيل، ويأبى الانضمام إلى معسكر النفاق في الأمة المتمثل بالنظامين السعودي والإماراتي، فيما يعملان له من تدجين الأمة لأعدائها، وتطويعها للمستكبرين، وإن خيار الأمة الذي يحقق لها الاستقلال والحرية والخلاص من هيمنة الأعداء ومن التبعية لهم هو النهج الحسيني الذي يمثل الامتداد الأصيل للإسلام بكل نقائه وصفائه، ويمثل تجسيداً للقرآن، واتِّباعاً حقيقياً، واقتداءً صادقاً برسول الله “صلى الله وسلم عليه وعلى آله”، وهو الذي يمكن للأمة بثقافته أن تكون واعيةً مستبصرة، وبروحيته أن تكون عزيزةً أبية قويةً مستبسلة، وبأخلاقه وقيمه أن تحقق إنسانيتها، وترتقي في سلم الكمال الأخلاقي، إنه المنهج الذي لا يقبل العبودية للطغاة مهما كان الثمن، ومهما كان حجم التضحيات، هو منهج: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}[محمد: من الآية19]، هو منهج: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8]، وهو منهج التضحيات التي تصنع النصر، وتصون الكرامة، وتحقق أسمى الأهداف، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر: 51-52]، صدق الله العلي العظيم.
إننا في ذكرى استشهاد الحسين “عليه السلام” في يوم حسم الخيارات واتخاذ القرارات المصيرية نؤكد على التالي:
- إنَّ موقفنا في التصدي للعدوان الأمريكي السعودي الإماراتي الصهيوني الغاشم على بلدنا هو موقفٌ مبدئيٌ من منطلق انتمائنا الإيماني والديني، وبحكم هويتنا الإيمانية، وهو جهادٌ مقدس، وواجبٌ دينيٌ وإنسانيٌ ووطني، ومن يفرِّط بهذا الواجب، أو يخون هذا الموقف، فهو يخون هويته الإيمانية، ويفرِّط بها، ولذلك فإننا- وبالتوكل على الله تعالى، وبالثقة به- لن نألوا جهداً في التصدي لهذا العدوان مهما كان مستوى التحديات، ومهما كان حجم التضحيات، فالله “سبحانه وتعالى” هو الأكبر والأقدر على إنجاز وعده بالنصر طالما استمر شعبنا في قيامه بمسؤوليته، وأدائه لواجبه، وتوكل على الله، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}[النساء: من الآية45]، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}[آل عمران: من الآية160].
وإن التضحيات مهما بلغت لن تكون بمستوى خسائر الاستسلام والخنوع التي تخسر الأمة فيها كل شيء: حريتها، واستقلالها، وكرامتها، وحاضرها، ومستقبلها، ودينها، ودنياها، ولا بمستوى خسارة التفريط الفادحة التي تمكِّن الأعداء من السيطرة على الأمة.
- إنَّ مواقفنا تجاه قضايا أمتنا وفي مقدِّمتها القضية الفلسطينية، والموقف من العدو الإسرائيلي، ومن الغطرسة الأمريكية، وموقفنا المتضامن مع شعوب أمتنا في لبنان، وسوريا، والعراق، والبحرين، والجمهورية الإسلامية في إيران، ومظلومية المسلمين في بورما والهند وكشمير… ومختلف أقطار العالم، هي مواقف مبدئيةٌ إسلامية، ونعتبرها جزءً أساسياً من التزامنا الديني لا يقبل المساومة.
- إنَّ أخوتنا الإسلامية مع أحرار الأمة أيضاً هي جزءٌ من التزامنا الإيماني والديني، وفي المقابل فإننا نستنكر كل أشكال التطبيع والعلاقات مع إسرائيل، ونعتبرها من الولاء المحرَّم شرعاً، والذي بلغ التحذير منه في القرآن الكريم إلى مستوى قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة: من الآية51].
وختاماً نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا للسير في طريق الحق لا نزيغ عنها أبداً، وأن يثبتنا في موقف الحق على نهج الحسين “عليه السلام” في التمسك بالإسلام الأصيل، والاهتداء بالقرآن الكريم، والاقتداء برسول الله محمد “صلى الله وسلم عليه وعلى آله”.
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يرحم شهداءنا، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
السَّلام على الحسين سبط رسول الله، السَّلام على شهداء كربلاء، الصلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله، السَّلام على كل الشهداء الأبرار.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ- أيُّها الإخوة والأخوات- وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛