اليمنيون…. أنصار الله عبر التاريخ
30 / 10 /2020م
مقالات:
إبراهيم الهمداني:
سجل اليمنيون أروع المواقف المشرفة، وصنعوا المحطات الخالدة في تاريخ البشرية، ببطولاتهم العظيمة وتضحياتهم الجليلة، في سبيل الله ونصرة لدينه وأنبيائه وأوليائه، ومما يؤسف له أن التاريخ لم يحفظ لنا إلَّا النزر القليل من تلك المواقف، وحتى ذلك القليل لم يسلم من الانتقاص أو التشويه أو البتر أو المرور عليه مرور الكرام،
في أحسن الأحوال، ذلك لأن اليمنيين كانوا يصدرون في مواقفهم العظيمة تلك، عن إيمان صادق بوجوب تلبية أمر الله، والمسارعة في الاستجابة إليه، غير عابئين بحجم المخاطر والتحديات والعواقب الناتجة عن ذلك، ولم تثنهم جسامة التضحيات المطلوبة منهم عن بلوغ مانذروا له أنفسهم، من نصرة الحق وإقامته، حتى وإن كان الثمن وتلك التضحية هي التنازل عن ملكهم وسلطانهم، بكل مايمثله من قيمة وجودية ونفسية لديهم، ما يعني أنهم لم يكونوا طلاب دنيا وملك وحكم لذات أبهة السلطة وزخرفها، وإنما كانت السلطة والملك عندهم وسيلة لبلوغ رضا الله تعالى، وإنفاذ أمره وتحقيق مشيئته، ولأن التاريخ يكتبه متسولوا الملك وغاصبوا الحكم وطلاب الدنيا، لتعويض عقدة النقص لديهم، ونسبة أمجاد وهمية وبطولات زائفة ومواقف فارغة إليهم، ليضاهئوا بها بطولات ومواقف الأبطال الحقيقيين، فإنهم حين يضطرهم السياق التاريخي لذكر أولئك الأبطال العظماء، تراهم يحاولون غض الطرف عنهم ما أمكنهم إلى ذلك سبيلا، وإن لم يكن من ذلك بدّ، تناولوا ماتيسر في نطاق محدود، بكثير من اللامبالاة وعدم الاهتمام، ويعود السبب في ذلك إلى حقيقة جدلية الصراع بين الحق والباطل، واختلاف الرؤية والنهج والاعتقاد التي يتبناها كل طرف منهما، لذلك يمكن القول إن الباطل حين يتحدث عن الحق، لا يفعل ذلك إنصافاً أو اعترافاً، وإنما من أجل التلبس به وتشويهه، وتمرير الباطل تحت مسماه والتقنع به، وذلك هو شأن تاريخ اليمنيين – منذ الأزل وإلى الآن – الذين نذروا أنفسهم لنصرة دين الله وإعلاء كلمته، وارتضى لهم الله الاختصاص بهذا الشرف، وبعيداً عن مقولات التاريخ السياسي المكتوب، واطروحاته الهزيلة المبتورة، نحاول في هذا الطرح قراءة نماذج من المواقف العظيمة التي سجلها اليمنيون، وصنعوا بها نقطة تحولات كبرى في تاريخ البشرية، مستندين في ذلك إلى معطيات النص القرآني، الذي سجَّل الكثير من تلك المواقف المشرفة.
١- قبيلة جرهم ودلالات الهجرة إلى مكة:-
من أرض الجنتين والخير والعطاء والملك والحضارة والحياة الرغيدة، خرجت قبيلة كاملة، في هجرة طواعية اختيارية، لم تفرضها صراعات سياسية وحروب، ولا ظروف اقتصادية ومجاعة، ولا كوارث بيئية وزلازل وبراكين وغيرها، وقد عجز المنطق والعقل عن إيجاد موطئ تبرير أو مكمن سبب لتفسير ماحدث، ولتعليل خروج قبيلة كاملة هكذا فجأة، متخلية عن تموضعها الوجودي، وانتمائها الطبيعي، وكيانها السيادي والسياسي، قاطعة ارتباطها الوثيق بتموضعها ومحيطها الجغرافي، متنازلة للغياب عن حضورها دون إجبار أو إكراه، لم تكن تلك القافلة المكونة من قبيلة بأكملها، في مهمة تجارية أو عسكرية أو استكشافية، ولم تكن وجهتها كبريات المدن أو عواصم الامبراطوريات، حيث العيش الرغيد، الذي قد يكون بديلاً لما تركوه، بل كانت وجهتهم وغايتهم هي أرض غير ذي زرع، أرض قاحلة لا ماء فيها ولا زرع، ولا شيئ من مقومات الحياة، ومجرد التفكير في الإقامة فيها ومحاولة البقاء، يُعدّ ضرباً من الجنون، إذن ماهو السياق الحقيقي الذي يمكنه تقديم قراءة حقيقية لموقف قبيلة جرهم، وتنازلهم عن رغد العيش وسعته، ليخوضوا صراع البقاء في أرض قاحلة وتضاريس قاسية.
من خلال تتبع الحدث في سياق النص القرآني، تتكشف لنا الدلالات وتتضح المعاني، ونرى نبي الله إبراهيم عليه السلام، وهو ماض في تنفيذ أمر ربه، بكل رضى وتسليم، ليترك طفلاً رضيعاً وامرأة فاقدة الحيلة، في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا زرع، الموت فيها جوعاً وعطشاً أمر لا مناص منه، خاصة عندما يتعلق الأمر بطفل وامرأة لا حيلة لهما، لكن دعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام كانت طوق النجاة لهما، حيث قال متوجهاً إلى الله تعالى:” رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ”، وفي هذا استعطاف لرحمة الله واستنزال لرعايته، بدافع مشاعر العطف والحنان الفطرية، “عِنْدَ بَيْتِكَ الْـمُحَرَّم”، وهنا يحظر المكان بقدسيته وعظمته، لتنسحب دلالة المكان على من قصد جواره، واحتمى بحرمته، واعتصم بعصمته، وبذلك فهو مكفول برعاية وضيافة صاحب البيت المحرم، ثم يذكر المهمة التي لأجلها كانت هذه التضحية، “رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاة”، بكل ماتعنيه الصلاة من دلالات الاشتمال كل جوانب الدين، وإقامة أمر الله وإبلاغ كلمته وما إلى ذلك، ولكن أنّى لطفلٍ رضيع وامرأة لا حول لها ولا قوة تحقيق ذلك، وتحمل مشاق الدعوة، ومواجهة المنكرين والجاحدين والكافرين، ولا سند لهما ولا معين، ناهيك عن عدم قدرتهما على الحياة والبقاء في ظل تلك الظروف القاسية؟!
إن نبي الله إبراهيم عليه السلام بما ألهمه الله تعالى، لم يغفل عن أمر كهذا، فقد ألحق دعوته بالقول:- “فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ”، وكانت قبيلة جرهم هي الأفئدة التي هوت إليهم حباً وإجلالاً وتكريماً وعوناً ومشاركة في تنفيذ أمر الله وعبادته وإقامة أمره، كانت قبيلة جرهم – في هجرتها الاختيارية – تمضي في مهمة إلهية، استجابة لأمر إلهي عظيم، فصارت بذلك مصداقاً لاستجابة الله تعالى لدعوة نبيه إبراهيم عليه السلام، ولا يخفى على المتأمل ما تحمله مدلولات (أفئدة) في الدعاء بجعلها هي التي تهوي إلى ذرية إبراهيم عليه السلام، وما تدل عليه من الولاء الصادق والحب الغامر والإيثار المتفرد، والتضحية المنقطعة النظير، في حب ذرية إبراهيم عليه السلام ورعايتهم، وتبني المشروع الرسالي والتبليغ، بكل تبعاته، ليصدق فيهم الدالول التزامني بأنهم (ألين قلوباً وأرق أفئدة) كما وصفهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
٢- حكمة العقل وقوة البأس تمثلان حضور اليمنيين في مسار دعوة النبي سليمان عليه السلام
انصرف نبي الله سليمان عليه السلام بعد أن أعطاه الله ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، إلى تصريف أمور مملكته والنظر في شئون رعيته، إنفاذاً لما أُمر به، وتحقيقاً لمقتضيات التكليف المُناط إليه، وهكذا سارت الأمور بوتيرة عالية من العمل المستمر والعبادة الدائمة والشكر الذي لا ينقطع، أداءً لحق نعم الله تعالى، وطمعاً في تمامها ودوامها، ومن بين كثرة الانشغالات وتوالي الإنجازات، ضهر الهدهد بعد غياب أقلق ملكه، ليقص عليه مفاجأة لم تكن في الحسبان، ويعلمه أنه – بما يمثله في عالم الطير – قد أحاط بما لم يحط به سليمان عليه السلام – في تموضعه من الملك والنبوة – وقد أعطاه الله ملكاً عظيماً، إلَّا أنه قصر عن بلوغ مابلغه الهدهد، وأحس برغبته الشديدة لمعرفة ماسبق إليه أحد رعاياه، وبالعودة إلى سياق القصة في متوالية السرد القرآني، نرى الهدهد وهو يتصدر الحديث مبيناً سبب غيابه – الذي لم يطل، لأنه مكث غير بعيد – قائلاً لسليمان عليه السلام:- “أَحَطتُ بِمَا لَـمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ”، مبتدءاً حديثه بالتشويق والتحفيز والإثارة، في قوله:- “أَحَطتُ بِمَا لَـمْ تُحِطْ بِهِ” ، وما تحمله من دلالات الاختصاص بالعلم، ليس فقط على مستوى أبناء جنسه، أو زملائه من مخلوقات مملكة سليمان عليه السلام، ولكن على مستوى القيادة نفسها، سليمان عليه السلام ذاته، ويستمر في صنع الانفعال وإثارة التساؤل، بتحديد المكان (مملكة سبأ)، والتأكيد من خلاله على صدق الخبر الذي جاء به، والموضوع الذي حمله وتفرد بعلمه، وبعد أن بلغ التساؤل ذروته والدهشة أعلى مستوياتها، أفصح عن إحاطته وما شاهده في أرض سبأ قائلاً :- “إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيم”، فكان هذا هو المستوى الأول من الرسالة المراد إيصالها، حيث تعمد الهدهد ذكر الحضور الموازي لحضوره، في سياق الزمان والمكان ذاته، الذي تحضر فيه ملكة في الجانب الآخر، تملكهم مثلما أنت تملك رعيتك، وأوتيت من كل شيئ، بما يوازي الحضور الدلالي لما أوتيته أنت، وإن كان هناك تفاوت بينكما، ويختم الهدهد رسم تجليات ذلك الحضور الموازي بقوله:- “وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ”، واضعاً المتلقي في حيرة وتساؤل عميق، فأي عظمة لهذا العرش تستحق الذكر والوصف بالعظمة بين يدي سليمان عليه السلام، الذي يمثل بحضوره ومقامه وعرشه وملكه المقام الحقيقي للعظمة، وأبهى تجلياتها؟؟ ألم يكن ذلك تجاوزاً من الهدهد؟ أم أنه من باب إثارة فضول ملك بما عند غيره؟؟!!
وفي هذا المستوى الإخباري اشتغل الهدهد على مدلولات الحضور الموازي في التموضع المكاني والزماني بين ملكين ومملكتين وعرشين، في السياق الحياتي الدنيوي، وفي الجزء الثاني من الرسالة، انتقل الهدهد إلى مستوى اخباري آخر، يتعلق بأساس مهمة النبي سليمان عليه السلام، ويركز على حقيقة تكليفه، وأن تدخله أمر حتمي لا مناص منه، لأن هذه الملكة وقومها كما وجدهم الهدهد، “يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ” .
ويستمر النص القرآني في سرد أحداث القصة، موضحاً كيفية تدخل نبي الله سليمان عليه السلام، وناقلاً حقيقة الشورى وحوار العقل، وعلاقة التكامل بين الحاكم والمحكوم، في قول الملكة بلقيس بعد أن قرأت الكتاب وعرفت مضمونه، “يَا أَيُّهَا الْـمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ”، ليظهر بذلك صوت الحكمة اليمانية، وفي المقابل تجيبها نفوس كريمة وقلوب شجاعة، قائلين لها، “نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ”، وقد غلب صوت العقل والحكمة، وذهبت مع قومها إلى سليمان عليه السلام، ليسلموا طواعية لله رب العالمين، ولم يكن دخولها وقومها في ملك سليمان طلباً للشهرة أو طمعاً في المال، وقد أوتيت من كل شيئ ولها عرش عظيم، ولا خوفاً واستسلاماً لقوة بشرية أو سلطة ملكية، وقد وصفهم القرآن الكريم بما يدل عليهم من القوة وشدة البأس، وهنا يبلغ التوازي الدلالي في مقام الحضور الوجودي منتهاه، فحتى إسلامها – وقومها – كان كما وصفته مع سليمان، وليس استتباعاً أو تبعية أو تقليداً أو مسايرة للوضع.
لم يكن اليمنيون الشعب الوحيد الذي جاء سليمان عليه السلام معلناً إسلامه، فكم من الأمم والشعوب أسلمت طواعية أو إجباراً، وكم من الوحوش والطير والجن فعلوا مثل ذلك، لكن القرآن الكريم خص اليمنيين بالذكر، وخلد قصتهم، ووصف مقامهم بالعظمة وحضورهم بما هم عليه من القوة والبأس، وتصرفاتهم بما تنطوي عليه من الحكمة، لتكتمل بذلك طرفي معادلة الحضور اليماني، ممثلة في الإيمان يمان والحكمة يمانية، ليكون لهم بما منحهم الله واختصهم من الحكمة والقوة، الدور البارز في مستقبل مملكة سليمان عليه السلام، وليصبحوا هم الاستمرار الطبيعي لرسالته من بعده.
٣- اليمنيون يحرزون شرف نصرة خاتم الأنبياء والمرسلين
كأسلافهم من قبيلة جرهم، لم تحن هجىة الأوس والخزرج اعتباطية، أو لأسباب قسرية، وإنما كانت انطلاقا من الاستجابة الصادقة لعظيم التكليف الإلهي، ومسارعة في نيل هذا الشرف العظيم، فترموا وطنهم طواعية، وخرجت قبيلتان بكل مقومات وجودهما، لتحط الرحال في يثرب، لتبدأ التجهيزات لاستقبال القادم الشريف، ومصداق ما بشر به الأنبياء واحدا تلو الآخر، وأقبل اليمنيون على حياتهم الجديدة بكل حب، ونذروا أنفسهم لمهمتهم الجليلة بكل تفانٍإخلاص، يحدوهم شوق كبير إلى لقاء خير خلق الله أجمعين، ولكن وجودا موازيا شيطانيا، كان حاضرا في نفس المكان، هو وجود اليهود، الذين كان هدفهم إفشال مهمة اليمنيين، وحرفهم عن هدفهم الأسمى، وتحويلهم عن نصرة النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم، وإقامة دين الحق، إلى إثارة الحروب والفتن والنزاعات بينهم، لأن اليهود كانوا يعلمون مسبقا بحقيقة النبوة الخاتمة وصاحبها وأنصاره، وقد عمدوا إلى هدم كيان أنصاره، ليسهل القضاء عليه بعد ذلك، ورغم ما أحدثه اليهود من شرخ في العلاقة بين أبناء الأوس والخزرج، إلا أنها سرعان ما التئمت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم، الذي عالجها ومحى آثارها بالأخوة الإيمانية، التي أكسبت مجتمع الأنصار قوة ومناعة ضد مؤمرات اليهود والمنافقين ومخططاتهم.
جاءت البشارة بمبعث الرسول الأعظم، فهلل الأوس والخزرج، وذهب ممثلوهم إلى لقائه في العقبة بمنى، وبايعوه على نصرته، ثم كانت في العام التالي، بيعة العقبة الثانية، على نصرته وحمل أمره، وحمايته بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، وقد عاهدوه على ذلك، رغم جسامة الأخطار المترتبة على ذلك، والعواقب والتداعيات التي ليس أولها عداوة مجتمع قريش، بما يمثله من مكانة سياسية ودينية واجتماعية، بين القبائل الغربية، وليس آخرها تحالف الأحزاب واليهود والأعراب، في حرب إبادة شاملة ضد مجتمع المدينة المنورة، لمحوها من الخارطة إلى الأبد، ولم تتوقف تداعيات ذلك الأمر عند غزوة الأحزاب، بل قد نال الأنصار ظلم فضيع واستهداف ممنهج، على مدى التاريخ.
نعم… هم الأنصار كما سماهم الله تعالى، وهم الذين آووا ونصروا، هم الذين بذلوا وجادوا، وهم الذين آثروا على أنفسهم، رغم ما بهم من الخصاصة الفاقة وشدة الحاجة، باذلين أرواحهم وأموالهم وكل سيئ، بطيب خاطر وكرم نفس وسعادة غامرة… تحملوا كل العواقب والتداعيات، بإيمان صادق، وحملوا أمر الدين بصدق وثبات منقطع النظير، وكانوا هم الرافعة الأساس التي قام عليها هذا الدين، ولولاهم كما يقول النبي الأكرم، صلى الله عليه وعلى اله وسلم، لكان الرسول نفسه مجرد شخص من سائر الأنصار، وقد كان الرسول الكريم يرى نفسه واحدا منهم، بدليل أنه في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، آخى بينه وبين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد اكتفى الأنصار بالله ورسوله، ولم يطلبوا مقابلا أو ثمنا لما قدموا، لا منصبا سياسيا ولا مكانة اجتماعية، ولا زيادة من الغنائم والفيء، بل اكتفوا برسول الله قسما ونصيبا، حين ذهب الناس بالمغانم والذهب والأموال، وحين تسابق الناس على منصب رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم، وهو مايزال على فراش الموت، أنكر الأنصار ذلك، لعلمهم بحقيقة الفرق بين مفهوم الولاية ومفهوم السلطة والرئاسة، وأن مقام النبي لا يليه إلا مقام وصي، ورغم كونهم أحق وأجدر بالنبي – بعد عترته أهل بيته – إلا أنهم لم يتجرأوا على طلب خلافته، استحقاقا أو تعويضا، لأنهم يعرفون أنها إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد بايعوه على ذلك ضمن من بايع في غدير خم، وما ينسب إليهم في حادثة السقيفة، من طلب زعم طلب الخلافة، فلا يعدو كونه – في اعتقادي – ضربا من المغالطة، وذر الرماد في العيون، عن حقيقة طالبها الحقيقي، بخلاف الأنصار الذين بلغوا بجودهم وعطائهم إلى مقام الثناء الإلهي، والإشادة بعظمة تلك النفوس الكريمة، والإيمان الصادق، ولا يعقل أن من كان هذا مقامه في الجود والالتذاذ بالعطاء، أن تسمح له نفسه بمد يده ليسرق ما ليس له، فالكريم لا يسرق، ولو كان الأنصار يريدون منصبا أو وجاهة أو سلطة، لتعرف من خلالها مكانتهم وفضلهم، لما ترددوا في طلبها من رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم، ولما بخل بها عليهم، ولذلك لا يصح فيهم ما اُتهموا به في السقيفة بأي حال من الأحوال، لأن من بلغ به الجود والسخاء، إلى بذل كل ما يملك وهو في أشد الحاحة إليه، لن تسمح له نفسه طلب المباح، فما بالك بما فيه لصوصية على حق الغير .
استمر الأنصار في نصرة دين الله، وفاء لبيعتهم لرسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم، وأخلصوا أنفسهم لنصرة أمير المؤمنين علي عليه السلام، وأهل بيته الكرام، في سياق نصرتهم لله ورسوله، وقد جر ذلك عليهم المصائب والنكبات، وجعلهم لانتقام الظالمين والفاسقين من بني أمية، وقد ارتكبت بحقهم أبشع الجرائم، كما حدث في واقعة الحرة، التي لم يعصمهم منها لا إسلامهم ولا سبقهم ولا فضلهم ولا مكانتهم ولا جوار رسول الله فيهم وبينهم.