انقسمت الفضائيات العربية بشكل عمودي في تغطيتها الإخبارية ليوميات “العدوان الإسرائيلي” على الفلسطينيين، سواء في الداخل المحتل أو الضفة والقدس أو في قطاع غزة.
يرى أستاذ اللسانيات والفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي أنَّ وسائل الإعلام أداة طيّعة بيد الحكومات وشركائها لخدمة مصالحهم المشتركة، وأنَّها تقوم بـ”صناعة الإذعان” بين أوساط الجماهير، وتضع أذن الجرة حيث تشاء، في خدمة الممول والنخبة وأهوائها وأجنداتها السياسية، فتصور “جرائم إسرائيل دفاعاً عن النفس”، وتجعل “الفلسطينيّ إرهابياً”.
قد لا نتَّفق مع تشومسكي بالمطلق، فهناك وسائل إعلام حرة وملتزمة، وتحمل قضية ومسؤولية في آن، كما تحمل موقفاً ثابتاً، وخصوصاً في ما يخصّ القضية الفلسطينية، لكن في المقابل تنطبق مقولته على عيّنة من القنوات.
خلال الأيام القليلة الماضية، انقسمت الفضائيات العربية بشكل عمودي في تغطيتها الإخبارية ليوميات “العدوان الإسرائيلي” على الفلسطينيين، سواء في الداخل المحتل أو الضفة والقدس أو في قطاع غزة. وقد مثّل الكمّ الهائل من القنوات الفضائية العربية انعكاساً واضحاً للتحالفات السياسية المنقسمة والمتباينة بين من يقبل بـ”إسرائيل” ويوقّع اتفاقيات للتطبيع معها، ومن يرفضها ويراها كياناً طارئاً و”غدة سرطانية” يجب استئصالها، ويرفض، بطبيعة الحال، التطبيع والمطبّعين معها، ومن يعتمد استراتيجية “نص بنص”.
صحيح أنه لم يُعلن عن تلك التحالفات الإعلامية، لكنها تتمظهر للباحثين تحديداً في المنعطفات السياسية والأزمات والحروب. ويلحظ أنَّ المعالجة الخبرية، أو تغطية أحداث حرب ما أو أزمة ما، والمساحة الخبرية المخصصة لها، وبناء الصورة الإعلامية عنها، وتأطير أحداثها، وبالتالي تأثيرها في الرأي العام، تختلف جميعها من قناة إلى أخرى، ومن حلف إعلامي إلى آخر مقابل، إذ إنّ كلّ قناة تعبّر عن توجّه وخطّ سياسيّ معيّن مؤيّد أو معارض أو منحاز أو محايد.
في الآونة الأخيرة، منذ بداية جولة العدوان العسكري الإسرائيلي على غزة في النصف الأول من أيار/مايو 2015، وما رافقها من أحداث في الداخل المحتل، رصدنا هذا التباين في مقاربات الفضائيات العربية، وحاولنا أن نقدّم معطيات، وأن نشرِح عيّنة من أخبار عدد من القنوات العربية، ونحلّل مضامينها، فوجدنا أن هناك من يتبنى الرواية الإسرائيلية، ويحمّل حركات المقاومة، وتحديداً “حماس”، مسؤولية الخسائر البشرية في أوساط المدنيين في قطاع غزة، ويصفها بـ”التهور وعدم الحكمة والتبعية لإيران”، فيما يذهب قسم آخر من وسائل الإعلام إلى التركيز على الجانب الإنساني في قطاع غزة والمدن المحتلة، وإبراز الرواية الفلسطينية، لكنه، في المقابل، ووفقاً لشعار الرأي والرأي الآخر، يفسح مساحة للمحلّلين والمسؤولين الإسرائيليين، وهو ما يسهم، ولو بطريقة غير مقصودة، في خدمة “إسرائيل” مجاناً والتسويق لدعايتها المضلّلة.
أما الحلف الثالث، فهو قنوات محور المقاومة والمناصرين لفلسطين. هذه القنوات ركَّزت في تغطيتها الإعلامية على إبراز إنجازات المقاومة الفلسطينية وما تملكه من قوة ردع في الدرجة الأولى، وتالياً إظهار خسائر العدو الإسرائيلي المادية والبشرية، ورصد التناقضات والانتقادات المتبادلة بين قيادات العدو الإسرائيلي، ولم تغفل مع ذلك الجانب الإنساني، من خلال إظهار الجرائم الإسرائيلية في غزة تحديداً، لشيطنة العدوّ من ناحية، واستمالة الرأي العام إلى صف المقاومة الفلسطينية من ناحية ثانية.
من وجهة نظرنا، هذا هو المسار الصّحيح الذي سارت فيه قناة الميادين والقنوات التابعة لدول وحركات المقاومة في العالمين العربي والإسلامي والمنضوية في إطارها، فحقَّقت نوعاً من التوازن الموضوعي بين المظلومية والانتصار، حتى لا يتمّ تكريس الألم وتعميق الجراح والشعور بالإحباط، من خلال التركيز على الجرائم الإسرائيلية فحسب، بل كانت تبعث الأمل أيضاً لدى الرأي العام المؤيّد لحقوق الفلسطينيين، بإظهار العمليات العسكرية للمقاومة وإنجازاتها وتعاظم قوة الرد والردع لها.
عطفاً على ما سبق، إنّ التحالف الإعلامي المطبع مع “إسرائيل” على وجه الخصوص يمثل الخط السياسي، ويتبنى ذلك الخط في استراتيجيته الإعلامية، سواء كانت تلك القنوات رسمية أو رديفة. على سبيل المثال، وجدنا أن القنوات السعودية والإماراتية، وحتى دعاتها ومحلّليها، منحازون إلى “إسرائيل” على حساب حركات المقاومة، ويؤطرون العدوان العسكري الإسرائيلي في إطار أنَّ “مهمة إسرائيل الأساسية هي تدمير القوة العسكرية لحماس”، تماماً كالإعلام الإسرائيلي، لا فرق.
هذه القنوات تحمّل المقاومة الفلسطينية المسؤولية، وتتّهمها بـ”عدم الحكمة” و”التهوّر” و”التبعيّة لإيران”، وتتعمّد انتقاء ضيوف محللين أو خبراء متحاملين على حركات المقاومة، يهاجمونها على منابرها الإعلامية، رغم أنها المعتَدى عليه، ورغم كونها في موقع الدفاع، بل إنَّ بعض المشايخ السعوديين أو الإماراتيين ذهبوا إلى القول إنّ “غزة مجرَّد مقاطعة إيرانية”، وإن فصائل المقاومة أساءت إلى القضية الفلسطينية حين شارك بعض قياداتها في تشييع الشهيد قاسم سليماني ووصفه بـ”شهيد القدس”.
كما يُلحظ أنّ تلك القنوات تستخدم مصطلحات تقزّم حجم القضية بتصوير الصراع على أنه “إسرائيلي فلسطيني”، وتصف الشهداء بأنهم “قتلى”. وإذا ما أبدت نوعاً من التعاطف، فإنها تسمّيهم “ضحايا”، فيما تستبعد توصيف ما يجري بأنه “عدوان إسرائيلي”، بل تصفه بأنه “حرب”.
وفي أحيان كثيرة، تتبنى رواية العدو الإسرائيلي. على سبيل المثال، بعد أن دمَّر طيران العدوان الإسرائيلي برج الجلاء، صدَّرت إحدى القنوات السعودية الرديفة، وبالخط العريض، عنواناً على الشاشة برواية للعدو الإسرائيلي يزعم فيها أنّ “برج الجلاء كان يضمّ مكاتب مخابرات لحماس”.
إضافةً إلى ما سبق، فإنّها تمارس العنف الرمزي بحق الفلسطينيين، بحسب توصيف الباحث الفرنسي بورديو، وتضخّم الغارات الإسرائيلية وتصفها بـ”العنيفة”، بينما تتجاهل العمليات العسكرية للمقاومة وأسلحتها وما تصنعه داخل غزة المحاصرة أو تقلّل من أهمّيتها، من خلال الحديث عن “التفوق العسكري الإسرائيلي”، والمقارنة بين خسائر الفلسطينيين والإسرائيليين، والإشارة إلى أن “التهديد بقصف تل أبيب ثمنه نساء وأطفال ومبانٍ في غزة”.
كلّ ذلك لمحاولة تحميل المقاومة المسؤولية، بوصفِها “مغامِرة”، تماماً كما وصف أحد الدبلوماسيين السعوديين “حزب الله” بـ”المغامِر” خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز/يوليو 2006.
الخلاصة أنّنا أمام انقسام إعلاميّ كبير. لقد شكَّلت أحداث فلسطين الأخيرة فرقاناً بين الفضائيات العربية، وميّزت قنوات محور المقاومة مقابل القنوات الأخرى المنقسمة بين من يتبنى سياسات المطبّعين العرب، ومن يمثّل أصحاب التوازن اللامنطقي، بحكم العلاقات المزدوجة مع “إسرائيل” ومع المقاومة في قضيّة بحجم فلسطين لا تقبل القسمة على اثنين، ولا مكان معها للتوازن والرأي الآخر.