اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
في سياق الحديث عن اليقين بالآخرة، وعن أهميته الكبيرة كعاملٍ ودافعٍ أساسيٍ لالتزام التقوى، تحدثنا عن ذلك في حديث الأمس، وفي المحاضرة ما قبل ذلك، ونواصل الحديث في هذا السياق؛ لأهميته الكبيرة.
من أهم ما يتحدث به القرآن الكريم عن المتقين، ضمن اهتماماتهم الأساسية، ومواصفاتهم الهامة التي يتحدث عنها، هو: سعيهم المستمر وبجديةٍ كبيرة للنجاة من عذاب الله تعالى، واستشعارهم للمسؤولية تجاه تصرفاتهم، وأعمالهم، وأقوالهم، وأفعالهم، ومواقفهم، وربطها بذلك: في أنها أعمالٌ ومواقف يترتب عليها الجزاء؛ فلذلك يتعاملون على أساسٍ من المسؤولية، ضمن اهتمامهم ذلك يبرز العناية بهذا الأمر في دعائهم، فيتصدر أدعيتهم الدعاء بالنجاة من النار، النجاة من عذاب الله؛ لأنهم يؤمنون بوعيد الله “سبحانه وتعالى”، فيبرز في دعائهم، وفي تضرعهم، يطلبون من الله “سبحانه وتعالى” النجاة من عذاب الله، ويأتي في القرآن الكريم الحديث عن ذلك جامعاً بين الصيغة الخبرية والتعليمية، فهو يخبرنا كمواصفةٍ من مواصفاتهم من جهة، ويعلمنا أن نهتم بذلك عندما نسعى لأن نكون من عباد الله المتقين.
فلذلك نجد من ضمن الأدعية التي يصف الله “سبحانه وتعالى” عباده المتقين المؤمنين؛ باعتباره من أهم أدعيتهم قولهم: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}[الفرقان: 65-66]، فإلى جانب اهتمامهم بالتوبة، والتخلص من المعاصي والذنوب، والتدارك لكل جوانب التقصير والتفريط لديهم، وبشكلٍ مستمر، يعني: اهتمام عملي، اهتمام بالاستغفار والرجوع إلى الله، عندهم أيضاً اهتمام بالدعاء، يطلبون من الله النجاة من عذاب الله، النجاة من نار جهنم، {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}، عذاب شديد ورهيب، وملازم للإنسان، عذابٌ ليس فيه ذرةٌ من الراحة، عذابٌ يستمر ولا يتوقف، وتستمر معاناة الإنسان فيه دون أي لحظةٍ واحدة، أو ثانيةٍ واحدةٍ من الراحة.
من ضمن الأدعية الواردة في القرآن الكريم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: من الآية201]، فيأتي من ضمن ذلك قوله: {وَقِنَا}، {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، هكذا يعلِّمنا الله ويصف عباده المؤمنين المتقين، وهذا يعبِّر عن اهتمامهم، عن وعيهم، عن استشعارهم لخطورة المسألة، عن إدراكهم لأهميتها؛ ولذلك تتصدر أدعيتهم.
من ضمن ذلك قوله “سبحانه وتعالى”: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا}[آل عمران: من الآية16]، وهذا في مواصفات المتقين، {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فنطلب من الله “سبحانه وتعالى” أن يقينا عذاب النار، كما هو حال عباد الله المتقين، وهكذا يأتي الدعاء بشكلٍ مباشر بالنجاة من عذاب النار، بالنجاة من عذاب الله “سبحانه وتعالى”.
ويأتي أيضاً من ضمن اهتمامهم في ذلك ما يظهر طلبهم المغفرة بشكلٍ كبير، ومن ضمن أهم مطالبهم، وفي مقدمة مطالبهم: يطلبون المغفرة، المغفرة، ويسعون للتخلص من الذنوب، والمبادرة بالتوبة، وتلافي التقصير، والاهتمام بأسباب المغفرة، التي يرشد الله إليها في القرآن الكريم، ويعد عليها بالمغفرة، فالوعد عليها بالمغفرة هو من أهم ما يمثل جاذبيةً لتلك الأعمال، ويلفت النظر إلى مدى أهميتها، فيأتي مما وصفهم الله به في القرآن الكريم قوله تعالى: {التَّائِبُونَ}[التوبة: من الآية112]، {التَّائِبُونَ}، يصبح صفة مستمرة؛ لأنهم يلازمون التوبة، يلازمون الرجوع إلى الله “سبحانه وتعالى”؛ استشعاراً للتقصير، وتلافياً للتفريط، وتداركاً من المعاصي والذنوب، وبحالةٍ مستمرة.
ويأتي أيضاً قوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران: من الآية17]، كصفة مستمرة، فهم يستمرون في الاستغفار، وطلب المغفرة، بل ويتخيرون لذلك أحسن الأوقات المعروفة بالاستجابة والقربة، أو من أحسنها، بالاستجابة والقربة إلى الله “سبحانه وتعالى”.
ومهما كان عملهم، مهما كان عطاؤهم، مهما كانت تضحياتهم، فهم لا يصابون بالغرور، ولا يصلون إلى درجةٍ يفقدون فيها استشعارهم للتقصير، ويفقدون فيها شعورهم بحاجتهم إلى طلب المغفرة، هذه حالة بعيدة عن الإيمان، وحالة بعيدة عن التقوى، ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى” عن الربيين في القرآن الكريم، وهم من هم على درجةٍ عالية من الإيمان، والتضحية، والجهاد في سبيل الله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: الآية147]، في ذروة التضحية، في أشد المعاناة، وهم يتحركون في سبيل الله، يقاتلون في سبيل الله، يعملون في سبيل الله، فعندما يخفقون إخفاقات معينة، أو يعانون من المزيد من المعاناة والشدائد، أو يقدمون التضحيات الأكبر، فهم يرجعون إلى الله “سبحانه وتعالى”، ويلجئون إليه مستشعرين للتقصير، فيطلبون من الله المغفرة، من واقع استشعارهم في أعماق نفوسهم، في أعماق قلوبهم للتقصير أمام الله “سبحانه وتعالى”.
يعلمنا الله “سبحانه وتعالى” في دعاء من أهم الأدعية، ويعبِّر عن الهوية الإيمانية، والانتماء الإيماني، والمواصفات الإيمانية، في ختامها يقول الله “سبحانه وتعالى” معلماً، وبصيغةٍ خبرية، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة: من الآية286].
فنجد في هذه الأدعية، أو ضمن كل هذه الفقرات في هذا الدعاء المبارك ما يعبر عن الاستشعار، والوعي، والإدراك العميق، لأهمية العمل، لما يترتب على تصرفات الإنسان، حتى على أخطائه، حتى فيما يخطئ به على طريق النسيان، أن له تأثيرات، له نتائج ولو على الأقل في عاجل هذه الدنيا، كذلك ما يترتب على ذلك من الإصر، من الحمل الثقيل، من التبعات حتى في ميدان أداء المسؤولية، في ميدان العمل في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، للأخطاء التي تأتي حتى على طريق النسيان، وعلى طريق الخطأ غير العمد، تأثيراتها، تبعاتها، نتائجها؛ أما على مستوى العمد فله آثار خطيرة جداً، تبعات، ولذلك يضرعون إلى الله “سبحانه وتعالى” بالدعاء، ويأتي من ضمن هذا الدعاء: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}، بطلب العفو، وطلب المغفرة، وطلب الرحمة، للخلاص من الإصر، من الأحمال الثقيلة، من التبعات الناتجة عن الأخطاء، والناتجة عن التصرفات الخاطئة، وما أتى منها على سبيل العمد هو الأكثر خطورةً على الإنسان، فلا نجد مجالاً للتهاون، للاستهتار، للامبالاة، لعدم الاكتراث تجاه التصرفات والأعمال والمواقف والأداء العملي، نلحظ الجدية، الاستشعار العالي للمسؤولية، الإدراك العميق لأهمية ما يحصل من جانب الإنسان من تصرفات.
كما نجد في القرآن الكريم في دعاء الأنبياء “صلوات الله عليهم” أن المطلب الأول، والمطلب الرئيسي الذي يتكرر في أدعيتهم، وهم من هم على مستوى عظيم، مستوىً عظيم من الإيمان، من القربة إلى الله، من المنزلة العالية عند الله “سبحانه وتعالى”، يأتي طلب المغفرة، طلب المغفرة: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}[إبراهيم: من الآية41]، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}[نوح: من الآية28]، {رَبِّ اغْفِرْ لِي}، تتكرر في أدعية نبي الله نوح، ونبي الله إبراهيم، وسائر الأنبياء، ويأتي حتى الأمر للنبي محمدٍ خاتم النبيين “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين”، فيقول الله له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد: من الآية19]، ويتكرر أمره بالاستغفار في آياتٍ متعددة في القرآن الكريم، وهو بالتأكيد كان يهتم بذلك، ويحرص على ذلك، حتى أُثر عنه أنه كاد لا يقوم من مجلسٍ من مجالسه، أو موقفٍ من مقاماته، إلا ويطلب من الله المغفرة، ويكرر الاستغفار بشكلٍ مستمر، وباهتمامٍ كبير.
هذه الحالة التي تعبر عن الإدراك لخطورة الأعمال، ما ينتج عنها في حالة الإهمال، في حالة التفريط، في حالة المعصية، وضرورة السعي للتدارك الفوري، {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: من الآية135]، لا إصرار لا في حالة التجاوز، ولا في حالة التفريط تجاه ما أمر الله به بعد الإدراك لذلك، بل مبادرة بالإنابة إلى الله “سبحانه وتعالى”.
فنجد كيف أن ضمائرهم حية، مشاعرهم حية، وجدانهم حيٌ، يستشعرون حالة التقصير والأخطاء، وما ينتج عنها، وما يترتب عليها، مهما كان اهتمامهم، كما قلنا، لا تصيبهم حالةٌ من الغرور، والاطمئنان الكاذب الوهمي، الذي يتصور الإنسان من خلاله أنه أصبح جاهزاً لدخول الجنة بشكلٍ فوري، ولم يبق عنده أي تقصيرٍ، ولا أي خطأٍ، ولا أي معصيةٍ، الله يقول عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون: الآية60]، مهما قدموا، مهما كان عطاؤهم، ومهما كان مستوى عطائهم، لا يزالون يستشعرون التقصير، ويدركون أن المرجع إلى الله للحساب والجزاء يتطلب منا الاستعداد المسبق، والإنابة إلى الله بشكلٍ دائم.
واستشعارهم للخوف من عذاب يوم القيامة، من مواقف يوم القيامة، من أهوال يوم القيامة، وأن يردوا ذلك المورد، وأن يصلوا إلى ذلك المقام وهم على حالةٍ من التقصير، أو تحمل الأوزار، يقول الله عنهم: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور: من الآية37]، {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان: من الآية7].
حالة اللا اهتمام تجاه ذلك، والغفلة تجاه ذلك، الاستهتار تجاه ذلك، التهاون تجاه ذلك، الشعور وكأن الإنسان بعيدٌ عن ذلك بكله، وليس عليه أي خطر، ولا يشعر بأي تقصير، ولا بأي خوف، هي حالة الغافلين، حالة الجاهلين، حالة الذين وصلت بهم الغفلة الشديدة إلى درجة رهيبة جداً.
أو المكذبين، الذين قال الله عنهم: {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ}[المدثر: الآية53]، قال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا}[النبأ: الآية27]، ولذلك كانوا مهملين، مستهترين، وكانوا يعيشون وكأنهم مطمئنين كل الاطمئنان، وكأن الله قد تعهد لهم تعهداً مسبقاً ألَّا يعذبهم، ولا يؤاخذهم، ولا يعاقبهم، ولا يجازيهم، حالة رهيبة.
أما الحالة الإيجابية، الحالة المفيدة، الحالة التي تعبر عن الإيمان، عن الوعي، عن التقوى، وفي نفس الوقت لها إيجابيتها الكبيرة، لها إيجابيتها الكبيرة، التي تساعد بشكلٍ أساسيٍ على الاستقامة، على الطاعة، على العمل، هي هذه الحالة من اليقظة، من الوعي، من الخوف، من الإدراك لمخاطر الذنوب، ومخاطر التقصير، ومخاطر المعاصي، إيجابية ذلك كبيرةٌ جداً تجاه هوى النفس، والله “سبحانه وتعالى” يقول في القرآن الكريم: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}[النازعات: الآية40]، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}، نفس الإنسان عندما تنجذب نحو الإغراءات، أو نحو الشهوات، أو نحو الأطماع المادية، فيما يسبب لها أن تقع في العصيان، أن تتحمل الأوزار والذنوب، ما الذي يمكن أن يساعد في لجمها، في ضبطها، في السيطرة عليه، في إيقافها عند حدها؟ في مقدِّمة ذلك: هذا الخوف من إدراك ما يترتب على ذلك من العقوبات، من العذاب والعياذ بالله.
وأيضاً تجاه جانب آخر وهو المخاوف، التي تؤثر على الكثير من الناس جداً، فتمثل عاملاً يصدهم عن الاستجابة لله “سبحانه وتعالى” فيما وجَّه به، وأمر به من أعمال مهمة، ومسؤوليات كبيرة؛ ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران: من الآية175].
{فَلَا تَخَافُوهُمْ}، الخوف من أعداء الله، الخوف من المجرمين، والظالمين، والطغاة، وأعداء الله، يؤثر على الكثير من الناس؛ فيتخذون قرارهم بالتخلي عن القيام بمسؤولياتهم، في العمل على إحقاق الحق، وإقامة العدل، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتصدي للظالمين، والوقوف ضد المجرمين المعتدين، فيتقاعسون، ويتنصَّلون عن المسؤولية، فيخالفون الكثير من توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، ويترتب على ذلك عواقب سيئة في الدنيا والآخرة.
فعندما يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، هذا الخوف تتغلب به على كل المخاوف؛ لأن الآخرين الذين قد تخاف منهم، فتتقاعس عن مسؤولياتك، وتتنصل عن مسؤولياتك، وتتهرب من أداء وجباتك، ما الذي بأيديهم؟ ما الذي يمكن أن يفعلوه بك؟ كل ما بأيديهم من إمكانات، وجبروت، ووسائل للبطش، لا تساوي شيئاً، لا تساوي لحظةً واحدةً في نار جهنم، فيمثل هذا عاملاً مهماً في التغلب على المخاوف من جهة، والتغلب على الإغراءات، والشهوات، والميول النفسية، وهوى النفس من جهة أخرى، فهو خوفٌ له إيجابيته، يشكل وقايةً للإنسان من العذاب، وهم يدركون في الجنة- أولياء الله المتقون، المؤمنون- هم يدركون هذه الإيجابية الكبيرة، وهم يتذاكرون في الجنة، فيذكر الله ذلك عنهم في القرآن الكريم، عن أسباب نجاتهم، وفوزهم، ووصولهم إلى جنة الله ورضوانه، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: 26-28]، فهذا الإشفاق، هذا الحذر، هذا الانتباه تجاه المسؤوليات، تجاه الأعمال، تجاه التصرفات، تجاه الأقوال، وضبطها بمعيار التقوى، ضبطها بمعيار تقوى الله “سبحانه وتعالى”، كان له إيجابيته في النجاة من عذاب الله “سبحانه وتعالى”، مع الدعاء، مع الالتجاء إلى الله “سبحانه وتعالى”، {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}، فلذلك أهمية كبيرة جداً.
فيما يتعلق بيوم القيامة، تحدثنا في محاضرة الأمس عن بعضٍ من المقامات التي تحدث عنها القرآن الكريم، وعن بعضٍ من المواقف التي وردت في الآيات المباركة، والحديث في القرآن الكريم حديثٌ واسعٌ جداً عن الآخرة، عن القيامة، عن اليوم الآخر، عن الجنة والنار، الحديث بوعد الله ووعيده يتكرر كثيراً في القرآن، وفي أكثر الأحوال هو يترافق مع الجوانب العملية، إمَّا مع حثٍ وأمرٍ من الله “سبحانه وتعالى” على عملٍ معين، ولفتٍ لنظر الإنسان إلى أهمية عملٍ معين، أو في التحذير من أعمال معينة، فيأتي مرتبطاً بمقامات العمل، وأيضاً في مقام معرفة الله “سبحانه وتعالى” فيما يتعلق بوعده ووعيده.
الحديث في القرآن الكريم هو واسعٌ؛ لأن من المهام الأساسية للقرآن وللرسول هو الإنذار، الإنذار هو نذير، ينذرنا، يحذِّرنا، ينبِّهنا؛ حتى لا نقع في العذاب، إن التفتنا إلى هذا الإنذار، إن استفدنا من ذلك، إن آمنا بذلك، وأدركنا أهمية ذلك، فيأتي أيضاً في الحديث عن مقامات يوم القيامة، عن الحساب، وسواءً في مقام الحساب في ساحة القيامة، أو في حالة العذاب في نار جهنم والعياذ بالله، الحديث عن كثيرٍ من الأسباب التي هي أسبابٌ للهلاك، أسبابٌ للخسران، أسبابٌ توصل إلى العذاب، فيأتي من ضمنها: جوانب سلوكية، تصرفات من جانب الإنسان وأعمال تمثل عصياناً لله “سبحانه وتعالى” في الجوانب الأخلاقية، أو تتعلق بأطماع النفس، أو تتعلق بالظلم، أو تتعلق… مع أنَّ الظلم عنوانٌ يشمل- في نهاية المطاف- كل أنواع الذنوب والمعاصي، ولكن يأتي في القرآن الكريم التنبيه على مخاطر الأعمال، والكبائر، وكبائر الذنوب، التي تسبب للإنسان الهلاك والعذاب.
فضمن ما يأتي أيضاً مما يتحدث عنه القرآن الكريم في مقامات يوم القيامة بشكلٍ كبير، هو ما يتعلق بجانبٍ من الجوانب التي يتهاون بها الكثير من الناس، ويخرجونها من حسابات الأعمال المحاسب عليها، وهي مسألة المواقف، والولاءات، والإتِّباع، يعني: البعض المعاصي عندهم والذنوب التي يمكن أن تصل بالإنسان إلى نار جهنم، هي تتعلق بالجانب الأخلاقي مثلاً، أو بالسرقة، أو بالجرائم الأخلاقية… أو ما شاكل، لكن فيما يتعلق بالمواقف، عندهم طبيعي يقف الإنسان أي موقف، أو ينطلق من منطلقات مادية، أو حسابات مكاسب شخصية معينة، بعيداً عن التقوى، بعيداً عن موقف الحق، بعيداً عن الاتجاه الصحيح الذي يتطابق مع توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، ويحسبون مسألة الصراعات وكأنها بعيدة، أو منفصلة كلياً عن الالتزامات الإيمانية، بمعنى: أنَّ للإنسان أن يفعل فيها ما يشاء ويريد، يقف مع من يشاء ويريد، بحسب مزاجاته، وحسب تعبيرهم: مصالحه، وأطماعه، وأهوائه، ورغباته، يقف الموقف الذي يريد، يوالي من يريد، يعادي من يريد، يتَّبع من يريد… وهكذا: على أساس هوى النفس، وبعيداً عن الالتزامات الإيمانية.
مع أنَّ من أكبر ما يؤثر في واقع البشر، وينتج عنه الكثير من التفاصيل، من الأعمال، من السلوكيات، بل وتترتب عليه المظالم الكبرى، هو: حالة النزاع فيما بين البشر، حالة الخصومات، حالة الصراعات، وهناك دائماً فيما يتعلق بالصراعات، هناك طريق حقٍ يجب على الناس أن يسلكوه، موقف حقٍ يجب على الناس أن يقفوه، وهذه مسألة يتجاهلها أكثر الناس.
من أسماء يوم القيامة، سمَّاه الله بيوم الفصل، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ}[المرسلات: الآية14]، يومٌ يفصل الله بين عباده في كل ما كانوا فيه يختلفون، اختلافاتهم الدينية، سواءً بشكل ديانات، أو مذاهب… أو بأي شكلٍ من الأشكال، اختلافاتهم في واقع الحياة، صراعاتهم في واقع الحياة، والمعيار فيها عند الله هو معيار الحق، معيار الإيمان والتقوى، من الظالم ومن المظلوم، من المحق ومن المبطل، لا تأتي المسألة مثلما يتصور البعض، وكأن الموضوع عادي، المسألة هامة جداً، يوم الفصل، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ}، يومٌ عظيم الشأن، {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الدخان: الآية40]، فهو الموعد المحدد الذي يجتمعون فيه بكلهم للفصل فيما بينهم، وبدون أي هزل، يوم جد، لا هزل فيه، وفصل في كل الأمور: على مستوى النزاعات، على مستوى الأعمال، على مستوى المواقف، على مستوى السلوكيات، فصل وأحكام باتة وعادلة من الله “سبحانه وتعالى” القائل: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[آل عمران: من الآية55].
ويوضِّح الله في القرآن الكريم في مواقف القيامة، ومقامات الحساب، كيف أنها من أهم مواطن النصر، التي ينصر الله فيها عباده المؤمنين، الذين وقفوا في هذه الحياة موقف الحق، لم يغوهم عن ذلك، ولم يحد بهم الإغراءات، والأطماع، والأهواء، ولا الضغوطات، ولا المعاناة، ولا المتاعب، ولا التضحيات، ولا الأوجاع، ولا الآلام، ثبتوا، ثبتوا على موقف الحق مهما كانت المتاعب والصعوبات، ولم يتأثروا بأيٍّ من الإغراءات والأطماع، يقول الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا}[غافر: من الآية51]، ليس فقط الرسل، بل {وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[غافر: من الآية51]، بنصر قضيتهم، بإعلاء موقفهم، {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر: من الآية51]، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، هذا في يوم القيامة، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ}[غافر: من الآية52]، مهما قدَّموا من تبريرات، مثلما هو عادتهم في الدنيا، يقدِّمون لما يقومون به من ظلم، وإجرام، وعدوان، وطغيان، وبغي، وسعي للسيطرة على الناس للانحراف بهم عن منهج الله الحق “سبحانه وتعالى”، فيسوقون التبريرات، وينظِّمون الحملات الدعائية والإعلامية، وهناك لا يفيدهم ذلك شيئاً، لا مجال أبداً ولا قبول أبداً لكل التبريرات والذرائع الواهية، الساقطة، الباطلة، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ}، فلا تبريرات، ولا حتى اعتذار، أو توبة، أو إنابة، أو إعلان عن التراجع عن الخطأ… أو غير ذلك، {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}؛ لأن الموقف موقف يفصل الله فيه بين العباد، يتبين فيه من هو المحق من المبطل، من هو الظالم من المظلوم، ويأتي على ذلك الحساب، والجزاء، والعقاب.
وهكذا يبين في مواقف كثيرة، في آياتٍ كثيرة، فيما يتعلق بسخريتهم من الذين آمنوا، بضحكهم منهم، باستهتارهم بهم، {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}[المطففين: 29-30]، مواقف كثيرة، في نهاية المطاف في مشاهد القيامة يحاسبون، يعيشون حالة الذل والهوان، يتبين ويفصل الله في الأمر، أنهم هم الضالون، الخاسرون، الخائبون، الهالكون، المبطلون، ويتحدد مصيرهم وجزاؤهم وهو جهنم والعياذ بالله.
من المقامات في يوم القيامة التي هي من المقامات المهمة فيما يتعلق بالمنافقين، عندما تتجلى خسارتهم؛ لأنهم من أكثر الناس خسراناً، المنافقون والمنافقات هم من أكثر الناس خسراناً، وانحرافهم هو في الموالاة، أنهم يوالون أعداء الإسلام، هذا ما يؤكِّد عليه القرآن الكريم كقاسمٍ مشترك بين المنافقين بمختلف فئاتهم، يعادون المؤمنين، ويوالون الكافرين، فالقرآن الكريم كما قال الله “سبحانه وتعالى” فيه عنهم: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء: 138-139]، ينتج عن ذلك ما يقومون به من دورٍ تخريبيٍ كبير في واقع الأمة؛ لأنهم يعادون المؤمنين، لأنهم يعملون هم على تنفيذ مخططات ومؤامرات أعداء الإسلام، أعداء المسلمين من الداخل، مثلما يفعله النظام السعودي، مثلما يفعله النظام الإماراتي، مثلما يفعله المتجنِّدون في صفهم، والموالون لهم، والمقاتلون معهم، والمؤيِّدون لهم، يتحول كل نشاطهم بشكلٍ عدائي في كل المجالات: يقاتلون، يكذبون، يضللون، يتحركون إعلامياً، سياسياً، عسكرياً، أمنياً… في كل المجالات، لخدمة أعداء الأمة ضد عباد الله المؤمنين.
من المقامات التي يتجلى فيها خسرانهم في يوم القيامة، ما ورد في سورة الحديد: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}[الحديد: الآية13]، هم كانوا في الدنيا يحاربون المؤمنين، يعادون المؤمنين، ولا يقبلون بالنور الذي يتحرَّك به المؤمنون، نور الله، هديه، الذي يتحرك عليه المؤمنون في هذه الدنيا، ولا يقتبسون من نورهم في هذه الدنيا، بل يبغضونهم، يعادونهم، يكرهونهم، يصدون عنهم، يحاربونهم بكل أشكال المحاربة، يتحركون ضدهم بكل الأساليب والوسائل… وهكذا في الدنيا، أمَّا في الآخرة فيتجلى خسرانهم، فيحاولون أن يطلبوا منهم أن ينتظروهم، يحاولون أن يقتبسوا من نورهم، ولكن لا مجال هناك، يطردون، تطردهم ملائكة الله بإذلال، بإهانة، بخزي، ويُذْهَب بهم إلى جهنم، ويُضرَب بينهم بسورٍ، بينهم وبين المؤمنين، هذه من الحالة الخطيرة جداً، من المقامات التي يتبيَّن فيها فداحة خسرانهم.
من المقامات فيما بين الضعفاء والمستكبرين، وللأسف فإنَّ الكثير من أتباع الباطل- وبالذات من الذين يتجنَّدون كجنود عاديين في صف بالباطل، ويقومون بدورٍ أساسي في خدمة الباطل، وحماية الباطل، ونصرة الطغاة والظالمين والمجرمين- هم من الضعفاء، الضعفاء مادياً، ممن كانوا فقراء في هذه الدنيا، ضعفاء على مستوى الجانب المعنوي، لم يكونوا أصحاب جاه ونفوذ، فجنَّدوا أنفسهم في صف الباطل؛ لأنهم يرون في جانب أهل الباطل القوة، يرون في جانبهم المال… هكذا يتصورون، فيقفون في صفهم، يوم القيامة يندمون، يندمون من اتِّباعهم لهم، من ولائهم لهم، من نصرتهم لهم، من وقوفهم في صفهم، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}[سبأ: من الآية31]، يتناقشون، يتجادلون، يُحَمِّل بعضهم بعضاً المسؤولية، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}[سبأ: من الآية31]، قالوا: أنتم من كنتم السبب في انحرافنا عن خط الإيمان والتقوى، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}[سبأ: الآية32]، أنتم بأصلكم مجرمون، ولذلك اخترتم أن تقفوا الموقف المنحرف عن الهدى، عن موقف الحق، فيحمِّلونهم المسؤولية، وهم يشعرون بالخسارة، بالخسارة الرهيبة، فجوانب الولاءات، المواقف، الاتجاهات، هي من المواقف الرئيسية التي يجري عليها الحساب، والتي يتحدد بها مصير الإنسان، مصير الإنسان، وكذلك التفريط في أداء المسؤولية عليه وعيدٌ كبيرٌ في القرآن الكريم، عندما يقف الإنسان في صف الباطل.
ثم عندما نأتي إلى العذاب وما يتعلق بالعذاب، عندما يتحدث القرآن عن التفاصيل فيما يتعلق بجهنم، وأنواع العذاب في نار جهنم، فهي تفاصيل مهمة، على الإنسان أن يقف عندها، أن يتأمل فيها، أن يحسب حساب نفسه هنا في عاجل الدنيا، لا يزال في حالة فرصة، فرصة كبيرة جداً يستطيع أن ينتبه لنفسه، أن يسعى لوقايتها مع الاستعانة بالله “سبحانه وتعالى”.
يتوجه النذير في القرآن الكريم إلى الذين آمنوا في قول الله “سبحانه وتعالى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم: الآية6].
أول عناوين العذاب في نار جهنم هو: الاحتراق، الاحتراق بنارها، كلنا ندرك أنَّ الاحتراق هو من أشد الأشياء المؤلمة للإنسان، عندما يحترق بالنار، إذا احترق الإنسان بنار الدنيا- التي هي نعمة في الأساس- كيف تكون آلامه وأوجاعه؛ أمَّا نار جهنم- والعياذ بالله- عندما يتحول الإنسان فيها إلى كتلةٍ محترقة، مشتعلة بنيرانها المستعرة، كما قال هنا في هذه الآية: {وَقُودُهَا النَّاسُ}، عندما تكون من وقود جهنم، معنى ذلك: أن تشتعل بكلك، تشتعل ناراً، فتتحول بين نار جهنم إلى كتلة مشتعلة، تتحرك وأنت تشتعل نيراناً، وتحترق بنيرانها المستعرة، وهي في أشد حالات الاحتراق، في درجات الحرارة العالية جداً، تصور كيف هي آلامك، أوجاعك في كل بدنك، وأنت تشتعل بكلك، تحيط بك النار من كل الجهات، {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}[الزمر: من الآية16]، النار تشتعل من فوقك، تشتعل من تحتك، تشتعل من خلفك، تشتعل من أمامك، تشتعل عن يمينك، تشتعل من يسارك، وكل محيطك نارٌ مستعرة، مشتعلة، وأنت تحترق بها، تتعذب بها، تتألم بآلامها الشديدة والعياذ بالله، هذا أمر رهيب جداً، أمر رهيب، {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}[الزمر: من الآية16].
ثم في نار جهنم كل شيءٍ عذاب، بدءاً من النفس الذي تتنفسه، أنت هناك في الدنيا تستنشق الأوكسجين، وتشعر بالراحة عندما تستنشقه، فلو تعرضت لآلام، أو أمراض، أو ضيق تنفس، تشعر بالمعاناة الشديدة، والبعض قد- إذا تضرر الجهاز التنفسي لديه- قد يسبب له ذلك الوفاة، لا يتحمل، يختنق، ينقص الأوكسجين على الجسم؛ فيتضرر الإنسان ويختنق.
أمَّا في جهنم فالذي تستنشقه وتتنفس به بدلاً عن الأوكسجين فهو السَّموم، السَّموم والعياذ بالله، ذلك الهواء الحار جداً جداً، {فِي سَمُومٍ}[الواقعة: من الآية42]، يقول الله عنهم: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}[الواقعة: 42-44]، فالاستنشاق للسموم الحار جداً، الذي يعذبك ويحرقك من داخلك، النار تشتعل في كل محيطك وأنت تستنشقه إلى داخلك، وبشكلٍ صعبٍ جداً، حتى عملية الاستنشاق، الله يقول عنها: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}[هود: الآية106]، حالة خطيرة جداً، {زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}، لا تأتي عملية التنفس على نحوٍ طبيعي كما أنت في الدنيا تستنشق الأوكسجين بكل راحة، هناك تستنشق الهواء الحار جداً بصعوبة شديدة، وتخرجه بصعوبة شديدة، في حالة الزفير والشهيق، وأنت تتألم آلاماً شديدة، تجتمع عليك الآلام في كل شيء، وتتعذب فيها بكل شيء.
على مستوى الشراب، والإنسان مع الحرارة الشديدة يظمأ، يزداد ظمأه ويشعر بحاجة شديدة للشراب، للماء، فهم في نار جهنم يعذبون بالظمأ الشديد جداً، يظمؤون شدة الظمأ، على أشد حالةٍ من الظمأ الشديد جداً، وفي أقسى الحالات، في أصعب الحالات من الظمأ الشديد، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا}، وهم يستغيثون، ويطالبون بإلحاح واستغاثة، أن يقدم لهم الماء ليشربوا منه، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}[الكهف: من الآية29]، والعياذ بالله! يقدم لهم ماء، لكنه كحثالة الزيت، ماءٌ قذر، ليس ماءً نقياً، ماءٌ تشوبه الشوائب الكريهة والقذرة، فهو قذرٌ في غاية القذارة، وفي نفس الوقت حارٌ جداً جداً إلى درجة أنه يشوي الوجوه عندما يقرب منهم ليشربوا منه، فيشوي وجوههم والعياذ بالله! {يَشْوِي الْوُجُوهَ}؛ أما في داخلهم: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد: من الآية15]، حالة رهيبة جداً من الألم، فلا يرويهم؛ إنما يزيد في عذابهم، لشدة ظمأهم، وهو رهيبٌ جداً، إلى درجة تفوق كل تخيل، فهم يتجرعون حتى الصديد في داخل جهنم من شدة ظمأهم، يتجرعون حتى الصديد الذي يغلي وهو في غاية القذارة، نتنٌ في رائحته، قذرٌ في مذاقه، وأيضاً في غاية الحرارة، {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ}[إبراهيم: من الآية17]، يتجرعونه جرعاً، الجرعة بعد الجرعة، على نتانته، على قذارته، على حرارته الرهيبة جداً، على رائحته الكريهة جداً، على مذاقه السيء جداً جداً، لكنه ظمأهم الشديد الذي لا نتصوره لشدته.
{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}، تشتد العذابات والأوجاع التي تكفي لأن يموت بأي جزءٍ منها، عذابه في أي جزءٍ من جسده، في أي موضعٍ من جسده، كافٍ في أن يميته لو بقي موت، لو بقي موت، لكنها آلامٌ شديدةٌ جداً.
ثم أيضاً مع عذابهم بالظمأ يأتي عذابهم بالجوع، يجوعون أشد الجوع، فيحاولون أن يحصلوا على الطعام، ويلحون، ويتضرعون، ويطالبون، وحينها يقدم لهم أنواع سيئة جداً من الطعام، في مقدمتها الزقوم: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ} [الدخان: الآية43]، كذلك مذاقها بشعٌ جداً، تغلي داخل الإنسان، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان: 45-46]، حرارتها رهيبةٌ جداً، إلى درجة أنها تغلي وهي في داخل البطن، تغلي في داخله من شدة حرارتها، وكيف ستكون آلامهم بذلك، أثناء تناولها، وعندما تصل إلى بطونهم، ولكن من شدة جوعهم الذي يعذبون به، قال عنهم: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}[الصافات: الآية66]، يضغط عليهم الجوع الشديد جداً، فيأكلون المزيد والمزيد وهم يتعذبون به حتى تمتلئ به بطونهم، فتصبح تغلي في داخلهم، وهم يعانون من أشد الآلام والأوجاع.
على مستوى الملابس، {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}[الحج: من الآية19]، تفصل لهم ملابس يلبسونها نارية، تبقى دائماً مصدراً للحر الشديد الذي يحترقون به، ويتألمون منه بشكلٍ مستمر، على مستوى الغسل، هم في حالة رهيبة جداً من الاحتراق الشديد، يتحركون ككتل من نار جهنم- والعياذ بالله- في حالة اشتعال دائم، آلام دائمة، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}[النساء: من الآية56]، كما يقول الله تعالى في آيةٍ في القرآن الكريم.
في تلك الحالة إذا أراد أن يبرد نفسه، أن يبرد جسده من ذلك الاحتراق الشديد، من تلك الحرارة اللامتناهية، حرارة رهيبة جداً، فما الذي سيحصل عليه، {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن: الآية44]، يذهبون إلى حميم في منتهى الحرارة، منتهى الحرارة، فتزداد حرارتهم، تزداد آلامهم وأوجاعهم، {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}[الحج: 19-20]، عندما يصب من الأعلى من فوق رؤوسهم، فهو لشدة حرارته يذيب جلودهم، يذيب بطونهم، أمر رهيب جداً.
كل هذه العذابات، والاحتراق، والآلام، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا}، يتعالى صراخهم بشكلٍ مستمر، يصرخون، يستغيثون، يصيحون، يتوجعون، يبكون، يتحسرون، ولا يفيدهم ذلك شيئاً، يدعون الله في تلك الوضعية الرهيبة جداً، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، لا يستجيب لهم، يتضرعون أكثر فأكثر، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون: من الآية108]؛ لأنهم أضاعوا هذه الفرصة في هذه الحياة، هنا في الدنيا الفرصة متاحةٌ لك للدعاء، للاستغاثة هنا في الدنيا، للعمل بما يقيك من كل ذلك العذاب والعياذ بالله.
كلما استغاثوا لا يقبل منهم ذلك، يطلبون الوساطة من خزنة جهنم بالتخفيف ليومٍ واحد، {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ}[غافر: من الآية49]، يوم واحد، فلا يستجاب لهم في ذلك، يطلبون الموت، ويقولون لخازن النار: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}[الزخرف: من الآية77]، الموت بالنسبة لهم- لو يتحقق- أكبر أمنية يتمنونها، فلا يجابون إلى ذلك.
يحاولون الخروج بكل جهدهم، فيتحركون في جهنم بعناء شديد، وعذابات شديدة، وأوجاع شديدة، لكن {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}[الحج: من الآية22]، يضربون بمقامع الحديد ويعادون إلى أماكنهم ومواقعهم المحددة لهم في نار جهنم والعياذ بالله، وكلما استمر الوقت {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}[النبأ: الآية30]، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، أمر رهيب، لا يخرجون منها، يبقون في حالةٍ مستمرة في العذابات والأوجاع، يتندمون، يتحسرون، أمر رهيب.
كل هذا يذكره الله لنا في القرآن الكريم مقدماً، قدَّم إلينا بالوعيد، مسبقاً، ونحن في فسحة، في فرصة، لنأخذ الحذر والحيطة، يتطلب منا هذا أن نؤمن بوعد الله ووعيده، ثم إذا تأملنا ليس هناك أي شيءٍ يستحق منك أن تجازف به، وأن يكون سبباً لتورطك إلى جهنم، أي شيءٍ من الأهواء، من الشهوات، من الرغبات، ولا أي شيءٍ من المخاوف، والمتاعب، والصعوبات، والتحديات، والمخاطر، كل شيءٍ يهون أمام نار جهنم، أمام نار جهنم، أمام ذلك العذاب الشديد.
ولذلك نحن في فرصة في هذه الحياة لنبادر، الله يدعونا، يدعونا إلى الجنة، يدعونا إلى المغفرة، يدعونا إلى الرحمة، يرسم لنا فيما يأمرنا به من الأعمال الصالحة التي فيها الخير لنا أساساً في الدنيا، فيها استقامة حياتنا في الدنيا، فيها صلاح حياتنا في الدنيا، وفيها فوزنا العظيم في الآخرة، لنكون من عباده المتقين، {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان: من الآية51] كما قال، {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}، نسلم من عذاب الله، نفوز بما وعد الله به عباده المؤمنين من النعيم العظيم الواسع، يقابل كل هذه العذابات في الجنة تجري من تحتها الأنهار: أنهار اللبن، أنهار العسل المصفى، أنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين، أنهار الماء غير الأسٍ، من كل الثمرات الطيبة، من كل فاكهة، النعيم العظيم في قصورها، في فللها الضخمة، في مساكنها الطيبة، في كل ما فيها من الخير والنعيم العظيم، {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}[الرعد: من الآية35]، ظل الجنة في روحها وراحتها.
فلماذا لا يتجه الإنسان بجدية، يحذر من التهاون، يستعين بالله “سبحانه وتعالى”، ينيب إلى الله، والله زيد الإنسان هداية، هو وعد بهذا: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: الآية17]، يعينك عندما تستعين به، يهديك، يوفقك، يسددك، فقط ارجع إليه، أقبل إليه، لا تدبر عنه، لا تتولى عنه، لا تتولى عنه، أقبل إلى الله، ارجع إلى الله، اقبل هدي الله، اقبل من الله واستعن به، وهو خير معين.
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء، ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.
الإنسان يدعو في شهر رمضان بالعتق من النار، بالتوفيق لما يرضي الله “سبحانه وتعالى”.