نص المحاضرة الرمضانية السابعة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ -2022م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
مما ورد في القرآن الكريم في الآيات المباركة من سورة البقرة في الحديث عن فريضة الصيام، وتعيين شهر رمضان ليكون هو الشهر المحدد لأداء فريضة الصيام، كركنٍ من أركان الإسلام، وكفرضٍ أساسيٍ من فرائض الله “عزَّ وجلَّ”، أتى قول الله “سبحانه وتعالى”: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: من الآية185]، فشهر رمضان المبارك هو شهر نزول القرآن، الذي اتبدأ فيه نزول القرآن الكريم من خلال الوحي إلى رسول الله وخاتم أنبيائه محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وقد يكون- والله أعلم- هو بنفسه شهر البعثة بالرسالة إلى الناس، فتختلف الأقوال، البعض يعتبرون شهر البعثة هو شهر رجب، ولكن العجيب أنَّ أولئك الذين يعتبرون أنَّ شهر البعثة أنه شهر رجب، هم يعتبرون نزول القرآن في بداية البعثة، وأنه من خلال أول لقاء بالبعثة بالرسالة نزلت سورة اقرأ، هكذا يقولون هم، وهذا لا يستقيم؛ لأنه من المعلوم قطعاً أنَّ نزول القرآن الكريم ابتدأ في شهر رمضان المبارك، في ليلة القدر منه، كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: الآية1]، فالإرسال قد يكون إذا كانت البعثة مترافقة مع نزول القرآن، أو ابتداء نزوله، في شهر رمضان المبارك، وهو شهرٌ مباركٌ، وشهرٌ عظيم، وهناك روايات عن أمير المؤمنين عليٍّ “عليه السلام” أيضاً تفيد ذلك، وعلى كلٍّ فمما لا شك فيه أنه إذا كان نزول القرآن الكريم متزامناً مع بداية البعثة بالرسالة؛ فستكون البعثة حتماً في شهر رمضان المبارك.
القرآن الكريم الذي أنزله الله في شهر رمضان المبارك، ثم شرع صيام هذا الشهر، وبيَّن لنا غايةً عمليةً أو ثمرةً عمليةً أساسيةً ومهمةً بالنسبة لنا هي التقوى، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: من الآية183]، فمما لا شك فيه أيضاً أنَّ هناك تلازمٌ تام ما بين تحقيق التقوى، وما بين الاهتداء بالقرآن الكريم؛ لأن من أول متطلبات التقوى هو الهدى، أن نعرف ونعلم ماذا نفعل؟ ما الذي فيه الوقاية لنا إن فعلناه؟ ما الذي فيه الوقاية لنا إن التزمنا به، من الأعمال، من الأقوال، من المواقف، من التصرفات؟ أيضاً كيف يأتينا من الهدى ما يساعدنا على تزكية أنفسنا؛ لأن من متطلبات التقوى: تزكية النفس، نحتاج إلى تزكية أنفسنا؛ لكي نتقي الله “سبحانه وتعالى”.
ثم عندما نأتي إلى الجانب العملي، الجانب العملي لا يأتي هكذا بدون إرشاد، بدون تعليم، بدون معرفة، يحتاج الإنسان إلى معرفة ماذا يعمل؛ حتى يعمل، حتى يتحرك، وما الذي يجتنبه؟ ما الذي ينتهي عنه؟ ما الذي يحذر منه، مما فيه خطرٌ عليه، أو شرٌ عليه، أو عقابٌ له؟ ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى” فيما يتعلق بالتقوى والمتقين في علاقتهم بالقرآن الكريم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة: الآية2]، ويقول عنهم في آخر تلك المواصفات التي وردت في أول سورة البقرة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}[البقرة: من الآية5]، فمن أساسيات ولوازم التقوى، هو: الاهتداء بالقرآن الكريم، والتحرك على أساسه، فبذلك تتحقق التقوى من خلال الالتزام عملياً بما يهدي إليه الله في القرآن الكريم، وبما للقرآن الكريم من أثرٍ تربويٍ عظيمٍ في تزكية النفس البشرية، يساعدها على الالتزام، يهيئها للعمل، ولما له من عطاءٍ تربويٍ أيضاً يتناسب مع الصيام في تحفيز النفس البشرية على الصبر، على التحمل، في توفير الدافع الإيماني الكبير، الذي يجعل الإنسان ينطلق بكل رغبة، بكل جد، بكل اهتمام، باستشعارٍ للمسؤولية، وبما يمثِّله أيضاً من صلةٍ بالله “سبحانه وتعالى”، يحظى الإنسان من خلالها بمعونة الله، بتوفيقه، فكل هذه الاعتبارات مأخوذةٌ بعين الاعتبار، كل هذه الحيثيات مأخوذةٌ بعين الاعتبار في أهميتها وتناسبها، والتلازم مع بين فريضة الصيام والقرآن الكريم في مسألة التقوى.
الله “سبحانه وتعالى” ضمن سنته في هداية عباده يرسل الرسل، وينزل عليهم الكتب، وهذه سنَّةٌ ماضيةٌ مع عباده، ترافق نزول الهدى ومسيرة الهداية للمجتمع البشري منذ بداية وجودهم، منذ آدم “عليه السلام”، الله هداه، وأتت الهداية مترافقةً مع بداية استخلافه على الأرض، ثم استمرت المسألة إلى خاتم النبيين في مسألة إرسال الرسل وإنزال الكتب، إلى خاتم النبيين محمد “صلوات الله وسلامه عليه على آله”، فبعثه الله بالرسالة إلى العالمين، رحمةً للعالمين، وأنزل عليه القرآن العظيم.
والقرآن الكريم هو نعمةٌ عظيمةٌ أنعم الله بها علينا، نعمة الهداية بالرسول والكتاب هي أعظم النعم على الإطلاق، وهي مفتاح كل النعم، بدونها تتحول كل النعم إلى نقم، إلى وسيلة لاكتساب المعاصي، لاكتساب الآثام، إلى وسيلة للجناية على النفس، للجناية على المجتمع البشري، إلى وسيلةٍ للشقاء، إلى وسيلةٍ للإفساد في الأرض، إلى وسيلةٍ لإفساد الحياة، فالإنسان بحاجة إلى أن ترتسم له منهجية التعامل مع نعم الله عليه، وأن ترتسم له المسيرة الصحيحة لكيفية الاستخلاف في الأرض، التي يجمع فيها ما بين المبادئ والقيم الإلهية والإنسانية الراقية العظيمة، التي تنسجم مع كرامته الإنسانية، أو أن ينحرف عن ذلك، إذا لم يحصل على ذلك، أو لم يرتبط بهذه الصلة، بهذه الهداية، فيكون انحرافه سبباً لشقائه، سبباً لسوء تصرفاته، سبباً لكفرانه للنعم، سبباً للجناية على نفسه.
نعمة الله علينا بالقرآن الكريم هي نعمةٌ عظيمة، وهو كان المعجزة الرئيسية، من ضمن المعجزات هو المعجزة الرئيسية لرسول الله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وقد عظمت نعمة الله “سبحانه وتعالى” أن حفظ النص القرآني للأجيال اللاحقة ما بعد عصر وزمن مبعث الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” وحركته المباشرة وحياته، من بعد وفاة الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” لو لم يَحفظ الله “سبحانه وتعالى”- بمعجزةٍ إلهية، بآيةٍ عجيبة- النص القرآني للأجيال اللاحقة؛ لكانت المشكلة خطيرة جداً في مسألة التحريف للنص القرآني؛ لأن التحريف فيما يقدَّم باسم الدين مسألةٌ معروفة، يعني: كل المسلمين يعرفون هذه الحقيقة، أنَّ هناك تحريفاً خطيراً حصل في نقل المعارف الدينية، وفي نقل المفاهيم الدينية، وفيما يقدَّم باسم الدين، حتى في المرويات عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، هناك الكثير من الأحاديث المكذوبة، التي لم تصح عن النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهناك الكثير أيضاً مما يقدَّم باسم الدين، باسم الإسلام، بصفة الشريعة، بمختلف العناوين الدينية، من المعروف أنه لا يصح باسم الدين، فمن المسائل المعروفة هي مسألة التحريف، ولكن الأمة متفقة على أنَّ النص القرآني محفوظ؛ لأن الله “سبحانه وتعالى” تكفَّل بحفظه، هو القائل في القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: الآية9]، فهو أكَّد أنه حافظٌ له بشكلٍ مستمر إلى يوم القيامة، وهذا ما حصل، على مدى كل هذه القرون التي مضت وانقضت، لا يزال النص القرآني محفوظاً، وسيبقى محفوظاً إلى نهاية أيام الحياة، إلى قيام الساعة، فهذه نعمة، نعمةٌ عظيمةٌ جداً لنا؛ لأنه وإن حاول البعض أن يحرِّف في المعنى، أو أن يحرِّف في المفاهيم، فالقرآن يفضحه، سلامة النص، وبقاء النص، وحفظ النص القرآني نعمةٌ عظيمة تفضح المتقوِّلين على القرآن، فهذه من النعم العظيمة علينا في هذا الزمن، وفي كل زمن، أنَّ الله حفظ القرآن الكريم من التحريف لنصه، نعمةٌ عظيمةٌ جداً، وبقي لنا إلى هذا الزمن، ويبقى ما بعد هذا العصر إلى نهاية التاريخ، إلى نهاية الوجود البشري.
القرآن الكريم هو من نور الله، من علمه، من حكمته، من رحمته، ولهذا يسمِّيه بالحكيم، يسمِّيه بالعظيم، يسمِّيه بالمجيد، يسمِّيه بالنور، يصفه بأنه رحمة، ويصفه بأنه هدى، وعندما نأتي إلى سوره المباركة، فمطلع كل سورةٍ منه- باستثناء سورةٍ واحدة- مطلعها وبدايتها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ ليبين لنا، وليرسخ فينا أنَّ كل ما في هذا القرآن الكريم من هداية، من إرشاد، من توجيه، من تعليمات، من أوامر، من نواهي، هي من منطلق رحمة الله بنا؛ لأنه الرحيم، الذي يريد لنا الخير، يريد لنا السعادة، يريد لنا الفلاح، يريد لنا النجاة، يريد لنا ألَّا نشقى، ألَّا نسبب لأنفسنا الخسران الرهيب، مظاهر رحمته في نعمه المادية التي أنعم بها عليها، ومظاهر رحمته وتجليات رحمته فيما كرَّمنا به في هذه الحياة كمجتمعٍ بشري، وفي خلقنا، معروفةٌ وواضحةٌ، وذكَّرنا بها أيضاً في القرآن الكريم كثيراً، وكذلك نحتاج كمجتمعٍ بشري إلى هداية، إلى تعليمات، إلى إرشاد، إلى نظام لمسيرة حياتنا، فقدَّم لنا ذلك من منطلق رحمته بنا، وكل ما فيه على هذا الأساس، وهذا ما يجب أن نبني عليه نظرتنا إلى القرآن الكريم، وإلى ما فيه، إلى ما فيه من تعليمات، من توجيهات، من أوامر، من نواهٍ؛ حتى لا ننظر إلى شيءٍ من مسؤولياتنا في القرآن، أو مما أمرنا الله به في القرآن، ووجهنا إليه، وأرشدنا إليه، إلى أنه يمثِّل مشكلةً لنا في واقع حياتنا، وكأنه يتنافى مع الرحمة، أو أن ننظر إلى شيءٍ مما حرَّمه الله ونهانا عنه وكأنه حرمانٌ لنا، يجب أن تكون نظرتنا صحيحة، من هذا المنطلق الذي نرى فيه كل ما أمرنا الله به رحمة، ونرى أنَّ كل ما نهانا الله عنه فمن منطلق رحمته بنا، فنثق، ونطمئن إلى هذا؛ لأن الإنسان بحاجة إلى ثقة بذلك، واطمئنان تجاه ذلك، مهما كان في بعض الأمور شيءٌ من شكل المشقة، أو الصعوبات، أو التحديات، فالصعوبات والتحديات والمشاق هي جزءٌ من حياة هذا الإنسان، لكن الحقيقة أنَّ اليسرى هي في طريق القرآن، في طريق الحق، أنها هي الأيسر، هي الأقل كلفة، وهي الأعظم والأحسن عاقبةً للإنسان، مهما كانت المشاق.
الله أيضاً يصف كتابه بأنه مبارك، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأنعام: الآية155]، وهذه من أهم مواصفات القرآن، فهو كتابٌ مبارك:
مباركٌ فيما يتضمنه هو من الهداية الواسعة، من المعارف العجيبة، من سعة الهداية، ومن المعارف الواسعة جداً، ولذلك الإنسان كلما ارتبط بالقرآن أكثر؛ كلما توسعت معارفه، كلما ازداد حكمةً، كلما ازداد بصيرةً، كلما ازداد علماً، ولا يرى نفسه في مرحلة من المراحل مهما بلغ أنه قد استوعب ما في هذا الكتاب من النور، من الهدى، من العلم، من المعرفة؛ لأنه واسعٌ جداً، وفيه بركةٌ عجيبة في عطائه المعرفي.
ومباركٌ أيضاً في أثره التربوي، أثره عجيبٌ جداً في إصلاح نفس الإنسان، في تزكية النفس البشرية، في تأثيره الوجداني، تأثير عجيب، لا يصل إلى مستواه أي شيءٍ آخر، ولا أي بديلٍ آخر، في مستوى تأثيره الإيجابي في النفس البشرية، التي يكسبها الطمأنينة، يساعدها على التزكية، ينمِّي فيها ما فطرها الله عليه من مكارم الأخلاق، يزكيها مما قد تلوثت به، مما يتنافى ولا ينسجم مع فطرتها… وهكذا مباركٌ في عطائه التربوي.
مباركٌ أيضاً فيما يهدي إليه، فهو يهدي إلى ما فيه البركة، إلى ما فيه سعة الخير لنا، وعندما نتحرك على أساسه، على أساس ما فيه من التعليمات، على أساس هدايته، يبارك الله لنا في جهودنا، تكون جهوداً مثمرة، مباركة، آثارها، نتائجها، فاعليتها عالية، أكثر بكثير من مستوى إمكاناتنا، من مستوى قدراتنا؛ لأن البركة هي سعة تفوق مسألة الأرقام، مسألة الإمكانات، تفوق حجم الشيء الواقعي بزيادة، زيادةٍ من الله “سبحانه وتعالى”.
فبركته أيضاً في النتائج، في الآثار، فيما يترتب عليه، وهذا يمثل إغراءً كبيراً للعمل بالقرآن؛ لأنه لا شيء آخر له هذه الميزة بهذا المستوى، بهذا المقدار، بركته عجيبة، الجهود التي تبذل لأمةٍ تتحرك على أساسه يباركها الله، فتأتي البركة في كل شيء: بركةٌ في الأعمال، بركةٌ في النتائج، بركةٌ في الآثار، بركةٌ في كل مجالات الحياة، الأمة التي تتحرك على أساسه، تهتدي به، تلتزم به، تستبصر به، تعي به، تنطلق على أساسه، تقف المواقف التي يرشد إليها، سيمنحها الله أيضاً البركة فيما يمنحها من الخيرات، في أرزاقها، فيما يكتبه لها من النصر، فيما يكتبه لها من الخير في كل شؤون حياتها.
مما وصفه الله به، أنه نور، القرآن هو نور، وتكرر الوصف له كثيراً في القرآن الكريم، من ضمن ذلك قول الله “سبحانه وتعالى”: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة: من الآية15]، وكذلك في قوله “سبحانه وتعالى”: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ}[إبراهيم: من الآية1]، يعني: إلى رسول الله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[إبراهيم: من الآية1].
الحالة التي يكون الإنسان فيها بدون الهداية الإلهية هي حالة ظلمات؛ لأنه لا يبصر فيها الحقائق، لا يبصر فيها الخير بالفعل، لا يبصر فيها الطريقة الصحيحة التي بها فوزه، بها نجاته، بها سعادته، وتتكون لديه تصورات وتخيلات؛ وبالتالي ثقافات ومفاهيم خاطئة، فتمثل ظلمات تحول بينه وبين أن يرى الحقيقة كما هي، والحق كما هو، والخير كما هو، وتنعكس عنده الأمور في كثيرٍ من الأشياء، فيصبح لديه مفاهيم خاطئة، تصورات خاطئة، عقائد باطلة، أفكار خاطئة، وتشكل تلك الأفكار الظلامية حاجزاً يحجبه عن إدراك الحق والحقائق، عن إدراك الاتجاه الصحيح، فيتخبط في مسيرة حياته، في مواقفه، في أعماله، في قراراته، في تصرفاته، في سلوكياته، على المستوى الشخصي، أو على مستوى المجتمع الذي يتجه اتجاهاً بعيداً عن القرآن الكريم، يعتمد له نظاماً مخالفاً للقرآن الكريم، يبني مسيرة حياته على أساسٍ مناقضٍ للقرآن الكريم، فينتج عن ذلك انحرافات وحالة خطيرة جداً من التخبط.
فالقرآن هو نور؛ لأنه يقدم لك ما يضيء لك في واقع الحياة، فينير لك الدرب، ينير لك الطريق الموصلة فعلاً إلى الله “سبحانه وتعالى”، إلى خير الدنيا والآخرة، إلى الفوز العظيم، إلى النجاة من عذاب الله، إلى النجاة من الشقاء والخسران، ما يسمو بك، ولذلك هو يهدي، يهدي إلى الصراط المستقيم، فتتجه في مسيرة حياتك الاتجاه الصحيح الموصل إلى الغاية العظمى، إلى النتيجة الكبرى، إلى الفوز العظيم، وإلا كانت مسيرة الإنسان منحرفة، يتجه ويتخبط في هذه الحياة فلا يصل إلى النتيجة العظيمة، إلى الغاية العظيمة، إلى العاقبة الحسنة، وبعد شقاء الدنيا يكون مصيره- والعياذ بالله- إلى النار في الآخرة.
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة: 15-16]، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[إبراهيم: من الآية1]، وتجلى ذلك في حركة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، كيف أخرج الناس من الظلمات، كم كان لديهم من العقائد الباطلة، التي يبنون عليها أمورهم العملية، كم كان لديهم من المفاهيم والتصورات الخرافية والجاهلة والخاطئة، التي تتسبب في ضلالهم على المستوى العملي، كم كان لديهم من سلوكيات وأخلاقيات منحرفة وبشعة، لا تنسجم مع الكرامة الإنسانية، لا تنسجم مع ما أراده الله للإنسان وكرَّمه به من السمو في أخلاقه، في رشده، في تصرفاته، فبمسعى رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، بتبليغه للرسالة الإلهية، بجهوده الكبيرة، بأدائه العظيم، الذي تجسدت فيه حكمة القرآن الكريم، وبركة القرآن الكريم، غيَّر الواقع الذي كان سائداً آنذاك، واقع الجاهلية بكل ما تعنيه، وانتقل بالمجتمع نقلةً عظيمةً، ونقلةً كبيرةً جداً، ترتب عليها نقلةٌ كبيرة في واقع حياة المجتمع العربي آنذاك، المجتمع العربي الذي كان في واقع حياته، في ظروف حياته، دون مستوى بقية المجتمعات، أولئك الأميون، يعرفون بالأميين، ليس لديهم ثقافة، أكثر ما لديهم خرافات، وأساطير، وضلالات، وجهالات، وحالة من الشتات والفرقة لا مثيل لها لدى غيرهم من الأمم، والتخلف في شؤون حياتهم بشكلٍ كبير، بالنقلة التي أحدثها الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وصلوا في أعلى مستوى في المجتمع البشري آنذاك، فسادوا بقية الأمم على وجه الأرض، نقلة في فارقٍ زمنيٍ بسيط، انتقلت بهم، وغيَّرت واقعهم تماماً، لو استمروا وواصلوا على ذلك، لما كان واقع حالهم على ما هو عليه اليوم.
{لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم: من الآية1]، وهكذا أيضاً يبين لنا الله في القرآن الكريم عظمة كتابه، أنه كتابٌ عظيم الشأن، أحكمت آياته، تضمَّن الحكمة، وهو معجزةٌ للرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، قال الله عنه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: الآية88]، يعني: لو تعاونوا، وتظافرت كل جهودهم جنباً إلى جنب؛ لكي يأتوا بمثل القرآن الكريم، لا يستطيعون أن يأتوا بمثله أبداً، لا في إحكامه، ولا في نظمه، ولا في بلاغته، ولا في حكمته، ولا بمستوى ما فيه من الهداية، هدايته هدايةٌ عجيبة شاملة واسعة، بشكلٍ عجيبٍ جداً، وهو أرقى ما أعطاه الله للبشر، ليس لديهم شيءٌ يرقى إلى مستواه، في أفكارهم، في نظرياتهم، في مقترحاتهم، في تصوراتهم، في كل إنتاجهم الفكري والثقافي والمعرفي، ليس لديهم شيءٌ يماثل القرآن الكريم، في أي مجال من المجالات:
-
الرؤى السياسية: لا ترقى إلى مستوى ما في القرآن الكريم، ولا مقارنة، ليست شيئاً في مقابل ما في القرآن الكريم.
-
على المستوى الاقتصادي: النظريات، المقترحات، الدراسات، كل نتاجهم المتعلق بذلك من الرؤى والأفكار لا يساوي شيئاً في مقابل ما هو في القرآن الكريم، في أثره، في واقعيته، في نتيجته الطيبة، في مستوى ما يفيد به البشر.
-
وهكذا، على المستوى التربوي، على المستوى الاجتماعي، على المستوى… على كل المستويات.