نص كلمة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة جمعة رجب وآخر التطورات 1445 هـ 2024 م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
يوم الغد الجمعة هو اليوم الأول من شهر رجب، وترتبط به مناسبةٌ عظيمةٌ ومهمةٌ لشعبنا اليمني المسلم العزيز، تعتبر محطةً من أهم وأقدس وأسمى وأعظم المحطات التاريخية لشعبنا العزيز، في انتمائه الإيماني ودخوله في الإسلام، وفيها كان دخول عددٍ كبيرٍ جدّاً من أبناء شعبنا العزيز في الإسلام، بعد أن قرأ عليهم أمير المؤمنين عليٌّ “عليه السلام” رسالة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، في اجتماعٍ كبيرٍ في صنعاء، تدعوهم إلى الإسلام؛ فأسلموا طوعاً، وانتشروا وامتد الإسلام إلى مناطق كثيرة؛ فكان ذلك اليوم المبارك من أهم المحطات التاريخية لشعبنا العزيز.
وبهذه المناسبة نتوجه إلى شعبنا العزيز بالتهاني والتبريكات؛ لأنها محطةٌ مهمةٌ للغاية، ونعمةٌ كبيرةٌ وعظيمةٌ، وشرفٌ وفضلٌ عظيم من الله “سبحانه وتعالى”، وتوفيقٌ إلهيٌ كبير لهذا الشعب العزيز.
وشعبنا العزيز له محطات كثيرة في الانتماء للإسلام، بدءاً من المرحلة المكية، حيث كان من السابقين للإسلام شخصيات عظيمة من اليمنيين، عمار بن ياسر “رضوان الله تعالى عليه”، والمقداد، وآخرون كانوا من السابقين، الذين أسلموا مبكراً في بداية دعوة الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” وتبليغه للرسالة الإلهية، ثم كان الأوس والخزرج بإسلامهم وإيوائهم ونصرتهم، ثم انتشر الإسلام في اليمن في مراحل متعددة.
الاحتفاء بهذه الذكرى المباركة هو من الشكر لله “سبحانه وتعالى”، ومن التقدير للنعمة، ومن الاعتراف بها لله “سبحانه وتعالى”، وهي نعمةٌ عظيمةٌ جداً؛ ولهذا يقول الله “سبحانه وتعالى”: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}[الحجرات: من الآية17]، هي أعظم النعم على الإطلاق، ويقول الله “سبحانه وتعالى”: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس: الآية58]، نعمة تفوق أي نعمٍ مادية مهما كانت، مهما جمعه الإنسان من الأموال والنفائس، وما يحبه من متاع هذه الحياة، لا يسوى شيئاً في مقابل هذه النعمة الكبرى، والنعمة العظيمة، التي يترتب عليها الفوز العظيم في الآخرة، والشرف الكبير والعزة والخير في الدنيا. هذا جانبٌ من جوانب الاحتفاء بهذه النعمة: تعبير عن الشكر لله “سبحانه وتعالى”، من خلال الحديث عن هذه النعمة، ومن خلال الأذكار التي يُعَبِّر الإنسان عن الحمد لله، وعن الشكر لله، وعن التنجيد لله “سبحانه وتعالى”، وعن الاعتراف بهذه النعمة العظيمة.
ثم كذلك من الجوانب المهمة المتعلقة بهذه المناسبة هي: الاعتزاز بصفحة من أنصع صفحات التاريخ لشعبنا العزيز، وهي صفحة مهمة جدّاً، دورٌ عظيمٌ وتحولٌ كبيرٌ ومهمٌ جداً في تاريخ شعبنا العزيز، نحو الاتجاه الصحيح ونحو الاتجاه العظيم في الإسلام، بكل ما يعنيه لنا الإسلام من أهمية، من قدسية، من عظمة، فالاعتزاز بذلك التاريخ المشرف، تلك الصفحة التي من أنصع صفحات التاريخ، شيءٌ مهم بالنسبة للأمم والشعوب.
ثم كذلك من أهم ما يتعلق بهذه المناسبة هو: العمل على ترسيخ وتعزيز الهوية الإيمانية والانتماء الإيماني لشعبنا العزيز؛ لأنَّ هذا يحتاج إلى أنشطة تثقيفية، أنشطة تربوية، اهتمام على المستوى العملي، والمسألة هذه معروفة على مستوى واقعنا جميعاً، الإنسان بحاجة إلى اهتمام تربوي وتثقيفي وتوعوي، والتزام عملي؛ للارتقاء الإيماني، وكذلك لتربية الجيل الناشئ وحمايته، والحفاظ عليه مما يستهدفه في انتمائه الإيماني، من جهة المنحرفين والمحرفين، وأيضاً تجاه الحرب الناعمة الشرسة جداً، التي تستهدف الإنسان المسلم اليوم في كل الأقطار: تستهدفه في وعيه، في ثقافته، في فكره، في أخلاقه، في قيمه، في توجهاته، في مواقفه، في كل شؤون حياته، حتى في زيه، حتى في عاداته وتقاليده، استهداف شامل وغير مسبوق، وبوسائل لم يسبق لها مثيل، فمما يتعلق بهذه المناسبة وعلى امتداد شهر رجب، ومن خلال الأنشطة التربوية والتثقيفية، هو: ملاحظة هذا الجانب المهم جداً.
عندما نتحدث عن هذه المناسبة المباركة، التي تشدنا إلى تلك المرحلة المهمة في انتماء شعبنا العزيز للإسلام، فمن المهم جداً أن نستوعب المميزات لانتماء شعبنا الإيماني، لدرجة أن يقول رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” في الحديث المشهور بين الأمة: ((الإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يِمَانيَّة))، وهذا تعبير عظيم ومهم جداً: (الإيمان يمان)، يدل على عِظَم تَجَذُّر الانتماء الإيماني لشعبنا، وأصالته الإيمانية، ورسوخه الإيماني.
وهناك مميزات مهمة جداً لهذا الانتماء الإيماني، نتحدث عن بعضٍ منها باختصار:
بدايتها هو: الإقبال الطوعي برغبة كبيرة، وانسجام مع الإسلام، هناك من القبائل العربية وفي بعض المناطق من دخلوا في حروب مباشرة ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” وضد الإسلام، وكان موقفهم تجاه الإسلام، تجاه الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، تجاه الرسالة الإلهية، موقفاً سلبياً وعدائياً جداً، كما هو حال قريش ومجتمع مكة، اتجه أكثرهم إلى الكفر، إلى التكذيب، إلى الحرب الدعائية، إلى محاولة اغتيال الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” على مدى ثلاثة عشر عاماً، ومن بعد هجرة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” إلى المدينة دخلوا في حروب شرسة معه، ومناوشات حربية، كانت هناك معارك كبيرة وأحداث كبيرة بدايتها غزوة بدر الكبرى، وتخللت تلك الغزوات المتكررة إلى فتح مكة مناوشات، وحرب دعائية شرسة جداً، وحرب اقتصادية، وهناك قبائل أخرى كان لها موقفٌ مشابهٌ لذلك، موقف عدائي، موقف محارب، موقف سلبي، موقف صد عن سبيل الله وعن الإسلام.
بينما كان الموقف للشعب اليمني، سواءً السابقون منه في المرحلة المكية، أو الأوس والخزرج الذين أقبلوا على الإسلام طوعاً، وآووا ونصروا، دخلوا في الإسلام برغبة وانسجام كبير، أيضاً على مستوى اليمن هنا في المناطق اليمنية، عندما أتى أمير المؤمنين “عليه السلام” إلى صنعاء، وذهب أيضاً إلى مذحج، في مختلف المناطق كان الدخول جماعياً وبرغبة وانسجام، أيضاً معاذ بن جبل في بعض المحافظات والمناطق، وهكذا الآخرون الذين أرسلهم الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” وأيضاً الوفود التي وفدت من بعض المناطق وبعض القبائل على النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” وعادت مسلمةً، وأسلم من ورائها من القبائل والمناطق.
فالغالب في إسلام أهل اليمن كان هو الإسلام الطوعي، بدون حروب، بدون مشاكل، برغبة، بانسجامٍ فطري مع الإسلام، وهذا يدل على ما كانوا عليه من انسجام فطري مع قيم الإسلام، مع مبادئه، لم يكونوا قد ابتعدوا بقدر ما ابتعد غيرهم ممن كان موقفهم عدائياً ضد الإسلام، كان هناك حالات محدودة في المحاربة للإسلام، في المعارضة للإسلام، في المواجهة للإسلام، أو في حالة ارتداد، حالات محدودة، لكن الموقف الأعم، الأغلب، الجماهيري، الواسع هو: الدخول في الإسلام طوعاً وانسجاماً مع الإسلام، وارتياحاً لقيَّمه الفطرية، المنسجمة مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، هذا يدل على ما كان عليه أهل اليمن من قيم، من أخلاق منسجمة مع الفطرة؛ ولذلك وجدوا أنفسهم منسجمين مع الإسلام، ومتجهين إليه برغبة، والإقبال الكبير، انسجام وإقبال طوعي وإقبال كبير، يدخلون في الإسلام جماعات بالآلاف المؤلفة، في اليوم الواحد كان يدخل الآلاف في الإسلام ويعتنقونه ثم كان انتماؤهم في الإسلام وانتماؤهم الإيماني متميزاً، بإقبالهم للجهاد في سبيل الله تعالى، بدءاً بالأوس والخزرج الذين كان لهم شرف الإيواء، والمناصرة للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، والجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، فتميزوا بجهادهم، ومواقفهم الإيمانية والمشرفة، وتضحياتهم في سبيل الله، وعطائهم الذي بلغ إلى درجة أن قال الله عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: من الآية9]، روحية متميزة وعظيمة تُعَبِّر عن قيم راقية جداً، وعن وعيٍ عالٍ وعن إيمانٍ صادقٍ وراسخ، عن توجهٍ جادٍ وصادق، عن كرم وسخاء وشجاعة وإيثار.
وكان منهم نماذج راقية جداً في إيمانهم، كعمار بن ياسر الذي قال عنه رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بأنه: مُلِئَ إِيْمَاناً مِنْ قِمَّةِ رَأسِهِ إِلَى أَخْمَصِ قَدَمَيه، وكان له دور بارز في تاريخ الإسلام، وفي الجهاد في سبيل الله تعالى حتى الاستشهاد، المقداد، الأشتر، شخصيات كبيرة وبارزة وكثيرة كان لها دور عظيم ومميز، وحضور فاعل في التاريخ الإسلامي، ومؤثر، وعظيم، وَمُشَرِّف.
ثم مستوى الإسهام، انتماء ترتب عليه مواقف، جهاد، تضحية، وإسهام عظيم في تحقيق إنجازات كبرى، في نشر الإسلام، في مواجهة أعدائه، في الفتوحات الكبرى، وهكذا كان الإسهام عظيماً ومهماً، في مقدمته: إسهام الأوس والخزرج الذين سمَّاهم الله من عنده تسميةً منه “سبحانه وتعالى” بالأنصار، وهذا وسام شرف كبير وعظيم جداً.
ثم أيضاً في المحافظة على القيم، والاستمرار عليها، وتوريثها من الآباء إلى الأبناء جيلاً بعد جيل، هذا الإيمان المتميز برسوخه، بكماله، باتجاه المنتمين إليه اتجاهاً صادقاً في الاستجابة لله “سبحانه وتعالى”، يقابله انتماء وادِّعاء ناقص هو إيمان الأعراب، كما قال الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}[الحجرات: من الآية14]، بالكاد أنكم قد دخلتم في الإسلام وخرجتم من الشرك، لم تبقوا في حالة الشرك، لكن لم ترتقوا بعد إلى مرتبة الإيمان، {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}[الحجرات: 14-15]، انطلقوا في إيمانهم بوعيٍ ويقين، بوعي عالٍ، وبصيرةٍ نافذة، ويقينٍ راسخ؛ لذلك لم يرتابوا مهما كان هناك من تشكيك وتلبيس، ومهما كان هناك من محاولات لزعزعة قناعاتهم الإيمانية الراسخة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: الآية15].
وعندما نتأمل ونقارن ما بين: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} في انتماء الأعراب وادِّعائهم للإيمان، وبين ((الإيمان يمان))، نجد الفارق الكبير جداً؛ لأنه برز في مسيرة المؤمنين اليمانيين هذا التوجه الإيماني المبني على اليقين والوعي والبصيرة، والمبني أيضاً على الجهاد والبذل والتضحية والعطاء، فالمفارقة كبيرة ما بين ((الإيمان يمان))، وما بين: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}، وفيها درسٌ مهمٌ وعبرةٌ كبيرةٌ.
ثم المحافظة على هذا الانتماء الإيماني في جذوره العظيمة: التحررية، الأخلاقية، الحضارية، على مدى التاريخ، وفي آخر الزمان، هناك أمل من كل أبناء الأمة على مستوى المذاهب المختلفة، ولديهم روايات عن دورٍ مميز لليمنيين في آخر الزمن في نصرة الإسلام، في الموقف لمواجهة أعداء الأمة، في السعي لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، في الثبات على الإسلام، وفي حمل راية الإسلام وراية الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، هذا شيءٌ معروف.
آخر الزمن كما ذكر الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم (في سورة المائدة) تواجه الأمة اختباراً كبيراً، يفرز هذه الأمة في واقعها، وفي انتمائها، وفي مصداقية انتمائها للإيمان فرزاً كبيراً، الحالة الخطيرة في آخر الزمن كما في الآيات المباركة من سورة المائدة، وهي آياتٌ بيناتٌ واضحات، تبيِّن مدى الاختبار الكبير للأمة، وسقوط الكثير من الناس في ذلك الاختبار، العنوان هو: حالة ارتدادٍ عن مبادئ الدين وَقِيَّمِة في أوساط الأمة، امتداداً للولاء لليهود والنصارى، في إطار الولاء لليهود والنصارى، في اطار ذلك الولاء لليهود والنصارى تحصل حالة ارتداد عن مبادئ من أهم مبادئ الدين، وقيم من أهم قِيَّمِه، وتشمل كثيراً من أبناء الأمة، ولهذا قال الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: الآية54]، هذا الارتداد هو في اتجاهه الأوسع ارتداد عن مبادئ وقيم؛ لأنَّ الارتداد قسمان:
أحدهما خروجٌ عن ملة الإسلام، البعض من الناس يرتد إلى ذلك المستوى من الردة، يعلن الخروج من ملة الاسلام جملةً وتفصيلاً، هذه حالة كفر رهيب، وحالة خطيرة للغاية والعياذ بالله، وخذلان رهيب جداً، البعض يصلون إلى تلك الحالة: إلى إعلان الخروج عن ملة الاسلام جملةً وتفصيلاً، والتنكر للإسلام، والكفر به بكله.
ولكن ما رَكَّزَت عليه هذه الآية المباركة بالدرجة الاولى هو: الارتداد الأوسع، الذي يستشري في أوساط الأمة، وهو الارتداد عن مبادئ مهمة من الدين، وعن قيم أساسية من دين الإسلام؛ ولهذا جاءت المقابلة في الآية المباركة، في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}.
لو كان اتجاه الآية في التركيز فقط على الارتداد (الخروج من ملة الإسلام)، لكان ما يقابل ذلك أن يقول: [فسوف يأتي الله بقومٍ يسلمون، ويشهدون ألَّا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لكن لمَّا كانت المسألة مسألة مبادئ وقيَّم أساسية في دين الإسلام، يرتد عنها البعض في إطار ولائه لليهود وأوليائهم من النصارى، أتى ليقابل هذا الارتداد بهذه المبادئ نفسها، وبهذه القيم نفسها: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وَيُؤمَّل للمؤمنين أبناء شعبنا العزيز الذين ينطلقون في إطار هذه المبادئ والقيم، مع غيرهم من أخيار الأمة، من أخيار المسلمين في كل العالم الإسلامي، يُؤمَّل للمؤمنين من أبناء شعبنا أن يكون لهم دورٌ بارز، ودورٌ مميز في آخر الزمن، في إطار هذه المبادئ وهذه القيم وهذه العناوين العظيمة والمهمة، التي تمثل الاستمرارية لأصالة الإسلام، لأصالة الدين الإلهي الحق، والتي تكون وِصلَةً للأمة بماضيها المقدس، برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، الإسلام الحق، بإرث الأنبياء والمرسلين، التمسُّك بالقرآن الكريم ونهج الله الحق، والتحرك وفق تعليماته وهديه المبارك.
وهذا شرفٌ كبير، في ضل أن يتجه البعض من أبناء الأمة في ارتدادهم عن تلك المبادئ في الولاء لأعدائهم وأعداء الأمة بكلها، وفي طاعتهم، والقرآن حَذَّر من طاعتهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران: الآية100]، في ظل أن يتجه البعض من الأمة لتسخير أنفسهم، وإمكاناتهم بكلها: إمكاناتهم العسكرية، المادية، الإعلامية، في خدمة اليهود، في التطويع للآخرين لليهود، لم يكفهم أن طوَّعوا أنفسهم لليهود في تسخير إمكاناتهم لمصلحة اليهود، فيتجه الثابتون من أبناء الأمة، ذوو الانتماء الإيماني الصادق فيما هو شرف، فيما هو فضل، فيما هو خير، بدلاً من أن تُخضِع نفسك لعدوك، الذي لا يريد لك الخير ولا يُحبك، كما قال الله: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}[آل عمران: من الآية119]، بدلاً من أن تضحي في سبيله وهو عدوك ولا يحبك، وهو يحتقرك ويستغلك ويمتهنك، وتكون بذلك خاسراً عند الله “سبحانه وتعالى”، خاسراً في الدنيا والآخرة كما توعدهم الله، في نفس الآيات المباركة من سورة المائدة، ما قبل هذه الآية المباركة، أن يصبحوا خاسرين ونادمين، فالذي يتجه في سبيل الله هو الفائز، ليس بخاسر، هو يُقَدِّم ما يُقَدِّم حيث ينبغي أن يُقَدِّم فيما يُشْرِّفُه، فيما فيه الخير له، فيما فيه الفضل له، فيما عاقبته حسنةٌ عند الله في الدنيا والآخرة، فيما يليق بالإنسان كإنسان سوي الفطرة، مستقيم النفس والخُلُق.
فلذلك الدور المؤمل لأبناء شعبنا العزيز في إطار هذه العناوين القرآنية في آخر الزمن، هو دورٌ عظيمٌ وَمُشَرِّف، قال عنه الله “سبحانه وتعالى”: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وتلك المبادئ والقيم هي ثوابت، يبنى عليها البرنامج الإيماني، وهي أيضاً معايير للإيمان الصادق الواعي، والمسيرة الثابتة للانتماء للحق بصدقٍ وإخلاص، والمسؤولية كبيرة على شعبنا العزيز في انتمائه الإيماني، عندما قال رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((الإيمان يمان))، هذا وسام شرفٍ كبير وفضل عظيم، ولكن هناك مسؤولية في الحفاظ على هذا الإيمان، في ترسيخه، في تجسيد قِيَّمِه، في تربية الجيل الناشئ عليه؛ ليرث الأبناء هذا الشرف العظيم، وليتربوا على هذه الأصالة الإيمانية.
وهذا الانتماء إلى الإيمان بمميزاته وبجذوره:
-
جذوره التحررية؛ لأنَّ الإيمان يحررنا عن العبودية لغير الله “سبحانه وتعالى”، وهذا أول وأعظم وأكبر مبادئ الإيمان: أنه يحررنا من العبودية لغير الله “سبحانه وتعالى”، فلا نكون عبيداً إلِّا لله، وهو أيضاً يحررنا من التبعية لأعدائنا، فنتحرك بأصالة في انتمائنا للإيمان، أصالة الفكر، أصالة الهدى الإلهي، أصالة القيم، الأخلاق، المواقف، بعيداً عن التبعية للأعداء.
-
والجذور الأخلاقية؛ لأنّه دين الأخلاق، والقيم، والكرامة، والعفة، والصلاح، والزكاء، وغير ذلك.
-
ثم الجذور الحضارية، في بناء الحياة على أساسٍ من هدى الله “سبحانه وتعالى” وتعليماته.